إهداء إلى كل أم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
إن الحمد للّه نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، وبعد : إن القصة هي المفتاح إلى عقل الطفل وإدراكه ، فباحتوائها على عناصر التشويق والقدوة الحسنة تغرس في نفس الطفل القيم والفضائل المراد غرسها ، خاصة وأن الطفل عجينة طرية قابلة للتشكيل ، ولا يخفى علينا ما تزخر به المكتبات من القصص الغربية الوافدة التي تحمل عادات وقيما وتقاليد تشكل معالم مهتزة لشخصية مهترئة بعيدة كل البعد عن معالم الشخصية المسلمة ؛ لتكون بذلك معولا يهدم شخصية طفلنا ، هذه الشخصية التي لا بد وأن يكون لها استقلالها وتفردها وحدودها الواضحة الآمنة البعيدة عن الزعزعة ، فلا تقع نهبا للازدواجية عقائديا وفكريا واجتماعيا وثقافيا . لذا وجب علينا نحن الذين أنعم اللّه عليهم بنعمة العلم أن نسهم في حمل الأمانة المتمثلة في تربية النشء تربية إسلامية صحيحة خالية من التشويش والتغريب والتحريف .
ويمكن القول : إن القصة قد تسهم إلى حد كبير في رعاية هذه النبتة الغضة لتقف غدا بعقلها وقلبها ووجدانها وإسلاميتها المتميزة في وجه الريح والتيارات الفكرية العاتية التي تحاول أن تعصف بنا في كل اتجاه ، وانطلاقا من كل ما سبق جاءت الرغبة في تقديم عمل أدبي للطفل المسلم بحيث ينبع هذا العمل من عقيدته وقيمه وحضارته الإسلامية الأصيلة ، فكانت هذه السلسلة القصصية التي تحمل عنوان أهل ط§ظ„ط°ظƒط± للأطفال الذين هم بين التاسعة والثانية عشرة من العمر ، وقد استقت موضوعاتها من كتاب اللّه الكريم وأخذت عناوينها نصا من الآيات الكريمة للدلالة على موضوع القصة ، وقد جاءت في خمسة عشر كتابا يحمل كل كتاب قصة قصيرة .
sgsgm Hig hg`;v lil
أولا : الموضوع :
هو المحور الأساسي للقصة ، وستكون الموضوعات قرآنية مستمدة من كتاب اللّه عز وجل ، هذا الكتاب الذي تربى عليه أجيال وأجيال ليكونوا خير أمة أخرجت للناس . ونحن نهدف بهذا الاختيار إلى ربط الطفل المسلم بمصدر التشريع ومنبع الهدى مما يؤدي إلى رسوخ الإيمان في قلبه وتهذيب روحه ووجدانه وإيقاظ إحساسه بقدرة اللّه عز وجل وبأنه هو خالق الكون ومدبر الأمر ، وذلك بلفت نظر الطفل إلى بعض الظواهر الكونية التي يشاهدها في محيطه كالمطر . . الرعد . . البرق . . تعاقب الليل والنهار . . الشمس . . القمر . . الأرض . . الجبال الرواسي ، وغير ذلك من الظواهر التي قد نمر بها غافلين .
كما تهدف هذه السلسلة المقدمة إلى الطفل المسلم إلى تعميق إيمانه بعقيدته ودعائمها الأساسية ليظل في منأى عن الانحرافات الفكرية والزيغ والضلال ، ولتحميه من القلق والتوتر في لجة الحيرة التي يضيع فيها أولئك الذين يبتعدون عن اللّه وعن منهج الفطرة . أيضا نهدف في هذا العمل إلى تقويم لسان الطفل ، فاللغة العربية الفصحى في أرقى مدارجها وأروع كنوزها بين دفتي كتاب اللِّه عز وجل ، ومن الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها هذه السلسلة أيضا في بعض الموضوعات المنتقاة غرس الفضائل التي دعا إليها الدين الإسلامي : كبر الوالدين والتعاون والتراحم والإحساس إلى الناس وصلة الرحم والصبر والتواضع ، أيضا توجيه سلوكيات الطفل في الحياة وفي تعامله مع الآخرين ، والبعد عن بعض آفات اللسان كالغيبة والنميمة والكذب وربط ذلك كله بالثواب أو العقاب من اللّه عز وجل .
هذا وقد حملت القصص في السلسلة عناوين مستقاة نصا من الآيات القرآنية وهي كالتالي :
1 – " أقم الصلاة " :
من قوله تعالى : بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ .
2 – " وهنا على وهن " :
وهذا عنوان القصة الثانية مأخوذ من قوله تعالى : وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ .
3 – " وإيتاء ذي القربى " :
مأخوذ من قول اللّه تعالى : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ .
4 – " وكونوا مع الصادقين " :
من قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ . في الحث على فضيلة الصدق .
5 – " قرضا حسنا " :
من قوله تعالى : مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ .
6 – " وكان بين ذلك قواما " :
من قوله تعالى : وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا . في الحث على الاقتصاد في المعيشة والإنفاق .
7 – " حتى تستأنسوا وتسلموا " :
من قوله تعالي : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ . في الحث على بعض الآداب الشرعية التي أدب اللّه بها عباده كالاستئذان والسلام .
8 – " ويدرؤون بالحسنة " :
من قول اللّه تعالى : وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ . في الحث على دفع القبيح بالحسن صبرا واحتمالا .
9 – " أيحب أحدكم " :
من قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ . في النهي عن آفة من آفات اللسان وهي الغيبة .
10 – " السحاب الثقال " :
من قوله تعالى : هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ .
في الحث على التفكر في خلق اللّه وأنه مبدع الكون من خلال لفت النظر إلى بعض الظواهر الكونية وأهميتها في حياتنا .
11 – " واخفض جناحك " :
من قول اللّه تعالى : وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . في الحث على فضيلة التواضع وخفض الجناح للمؤمنين .
12 – " والجار الجنب " :
من قول اللّه تعالى : وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا . في الحث على أداء حق الجار والوصية به .
13 – " ولئن صبرتم " :
من قوله تعالى :
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ . في الحث على فضيلة الصبر .
14 – " والعافين عن الناس " :
من قوله تعالى : الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ . في الحث على العفو واحتمال الأذى من الناس .
15 – " ورتل القرآن " :
من قوله تعالى : أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا . في الحث على مداومة قراءة القرآن الكريم .
ثانيا : بناء القصة :
تعتمد القصة في بنائها على السرد غير الممل والحوار الشيق الذي يجذب انتباه الطفل حيث ستصاغ الأحداث والشخصيات بما يحقق الهدف المرجو من القصة ، ويخدم الموضوع المراد إيضاحه بحيث تترابط هذه الأحداث والشخصيات ترابطا منطقيا أقرب إلى الواقع والتلقائية ، الأمر الذي يقنع الطفل ويضفي على القصة صفة الوحدة والتكامل وتماسك الأجزاء .
ثالثا : اللغة والأسلوب :
ستتم الصياغة باللغة العربية الفصحى المبسطة بحيث تتلاءم مع حصيلة الطفل اللغوية ، ولكن مع مراعاة الإثراء اللغوي والإضافة إلى تلك الحصيلة مع إيراد شرح لمعاني الكلمات الصعبة ، وبذلك يمكن للطفل أن يكتسب خبرات ومعارف ومفاهيم ومفردات لغوية جديدة تضاف إلى حصيلته السابقة .
هذا وسيتم الاستدلال بالآيات القرآنية والأحاديث الشريفة حسبما يقتضيه موضوع القصة علما بأن القصص ستخلو من الرسومات التوضيحية .
نشأ أحمد في جو أسري عبق بأريج الإسلام ، يحرص جميع أفراده على التقيد بتعاليم الدين في كل شأن من شؤون حياتهم ، متخذين من القرآن الكريم والسنة المطهرة نبراسهم وحاديهم إلى طريق الحق بعيدا عن ظلمات الزيغ والضلال . . لقد كان لأحمد في والديه خير قدوة وخير معين للمضي على الطريق القويم ، متلمسا خطاهم ، حاذيا حذوهم في شتى أموره . . وكان والد أحمد يعلم كم هي قوية ذاكرة الطفل الصغير ، ويعلم أن الطفل صفحة بيضاء ناصعة لا تشوبها شائبة ، وما يخطه على هذه الصفحة النقية يقرؤه غدا بكل وضوح ، لذا حرص الأب والأم على أن يكونا خير قدوة لولدهم ، وألا تقع عيناه على ما يعكر صفو أمنه ، وألا يرى منهما إلا كل جميل ، وقد كانا حقا أبوين صالحين فكانا لولدهما خير قدوة وخير معين ، فشب الولد غضا طريا في دوحة العلم والدين ينهل من منهله العذب النقي .
استيقظ أحمد من نومه على صوت والده وهو يدعو قائلا : الحمد للّه الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور 00 اللهم اجعل أول هذا النهار صلاحا وأوسطه فلاحا وآخره نجاحا .
ردد أحمد هذا الدعاء كما علمه إياه والده وخرج للصلاة في المسجد مع والده ، وحين عادا من أداء الصلاة جلس أحمد إلى والده يحادثه بعضا من الوقت فبادر قائلا :
يا والدي ، لقد تعرفت إلى صديق جديد انتقل إلى مدرستنا منذ يومين ، وقد راقت لي صحبته غير أن هناك ما أزعجني منه ؟ !
– وكيف يا بني ، ألم تقل إن صحبته راقت لك ؟ !
– نعم يا والدي ، فهو شخص دمث الأخلاق بشوش متعاون ولكننا حين ذهبنا لأداء الصلاة لم يرافقنا .
– هذا أمر جلل يا بني ، ولماذا لم تدعه للذهاب معكم ؟
– لم أدعه في المرة الأولى ظنا مني بأنه سيلحق بنا ولكنه لم يفعل ، وحين تكرر منه هذا الفعل في اليوم الثاني دعوته فبادرني قائلا : أنا مازلت صغيرا وسأقوم بأداء فريضة الصلاة حين أكبر .
– لعلك يا بني أغلظت له في القول فلم تدعه باللين والقول الحسن ؟
أجاب أحمد :
– على العكس يا والدي لقد كنت رفيقا به ولم أحدثه أمام أصدقائنا الآخرين ، بل أسررت له بعيدا عن أسماعهم . .
– أحسنت يا بني ، فهذه بعض صفات الداعية الذي لا يبغي بدعوته غير وجه اللّه . . وعلى أية حال لا شك أن صديقك هذا جاهل أمر دينه ، وإن كنت أعلم أنكم قد درستم في المدرسة كل ما يتعلق بأمور الصلاة .
– نعم يا أبي ، ولكنني أرغب أن تزودني ببعض النصائح لعلي أنقلها إليه ، فربما وعى واستجاب لنصحي . . أجاب الأب فرحا بابنه الذي أرقه أمر صديقه .
– بارك اللّه فيك يا بني ، وأحمد اللّه على أن أراني فيك ما أقر عيني وأثلج صدري ، ومضى يحدث ابنه قائلا : اعلم يا بني أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر حين يكون العبد فيها معظما ربه خائفا منه راجيا رحمته ، فحظ كل واحد من صلاته إنما هو بقدر خوفه من اللّه ؛ لأن اللّه إنما ينظر إلى قلوب عباده لا إلى صورهم الظاهرة ، ولذا قال تعالى : إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي . كما روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها . رد أحمد : أجل يا أبي وإني لأحفظ وصية لقمان لابنه وهو يعظه في قوله تعالى : يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ .
أجاب الأب مسرورا من ابنه :
أحسنت يا بني فالصلاة لها أحسن الأثر في تهذيب النفوس وتقويم الأخلاق ، ففي كل جزء من أجزائها تمرين على فضيلة من الفضائل الخلقية وتعويد على صفة من الصفات الحميدة . وتابع الأب قائلا : أما قول صديقك وتعلله بأنه صغير السن فيمكنك القول له : إن التكاليف الشرعية لا يؤمر بها الإنسان إلا عندما يبلغ الحلم حين يصبح مسؤولا عن أداء الفرائض ومحاسبًا عن التقصير فيما كلف به ، إلا أن الإسلام قد تجلت رعايته للأطفال الذين لم يبلغوا سن الحلم حين جاء في الحديث الشريف : مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر .
ثم أليس يا بني صديقك هذا الذي حدثتني عنه في مثل سنك ؟
– نعم يا والدي .
– إذًا لقد تخطى العاشرة ، وقد أمر اللّه والده أن يأمره بالصلاة ، وعليك يا بني أن تنبهه لذلك ، وأن تحاول تعليمه الصلاة وكيفية التهيؤ لها ، وما يقوله في صلاته ، وذَكِّرْهُ يا بني بقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حين سئل أي الأعمال أفضل فقال : الصلاة لمواقيتها . فالصلاة هي أفضل أعمال الإسلام وأجلها قدرا وأعظمها شأنا .
وعن ابن عمر – رضي اللّه عنهما – قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان .
سأل أحمد والده بأدب :
فإذا سألني : وما الغرض من الصلاة ؟ فبماذا أجيب ؟
رد الأب قائلا : تعلم يا بني أن الصلاة ركن من أركان الإسلام ، فمن تركها فقد هدم ركنا من أقوى أركانه ، وهي تطهر النفوس من الذنوب والآثام ، والغرض الحقيقي من الصلاة هو إشعار القلب بعظمة الإله الخالق حتى يكون على وجلٍ فيأتمر بأمره وينتهي عما نهاه عنه ، ومن يقف بين يدي خالقه ، وقلبه ذليل خاشع خائف وجل من جلال الخالق ذي السطوة التي لا تحد ، والمشيئة التي لا ترد فإنه يكون بذلك تائبا من ذنبه منيبا إلى ربه .
وتصلح أعماله الظاهرة والباطنة وتقوى علاقته بربه .
فهل وعيت ما قلته لك يا بني ؟
أجاب أحمد :
نعم يا والدي ، كم أنا سعيد بما زودتني به هذا اليوم ، وإني لأجد فيه فائدة لي ولصديقي إن شاء اللّه . .
– ليكن عملك يا بني خالصا لوجه اللّه ، وخذ صديقك بالصبر والحلم والأناة والرفق ، فما وضع الرفق في شيء إلا زانه ، وما نزع من شيء إلا شانه .
أردف أحمد قائلا : اطمئن يا والدي ستسمع من الأخبار ما يريح قلبك ويسعدك .
رد الأب وقد علت وجهه ابتسامة خفيفة .
هيا يا بني تناول إفطارك ثم اتجه إلى مدرستك واستعن باللّه في كل أمورك .
غادر أحمد المنزل وهو يدعو اللّه أن يوفقه في ذلك اليوم لهداية زميله إلى الصلاة ، فكم سيكون سعيدا لو استجاب صديقه وخشع قلبه وصلى معهم ظهر هذا اليوم .
انقضى اليوم الدراسي وعاد أحمد من المدرسة وقد امتلأ سعادة وبهجة ، وحين سأله والده عن صديقه عبد اللّه أجاب بتواضع جم :
الحمد لله يا أبي لقد نصحت صديقي بما زودتني به وبما كنت أعرفه من قبل فاستمع لقولي خير استماع ، وذكر لي أن تركه للصلاة لم يكن إنكارا أو إهمالا لشأنها بل ذاك لأنه لم يكن يعرف كل ما سمعه مني . وإني أستأذنك يا والدي في دعوته لزيارتنا كل أسبوع لكي يشاركنا اجتماعنا ، فقد أخبرته أنك قد حددت لنا يوم الخميس من كل أسبوع لمناقشة أمر من أمور ديننا فرغب في أن يشاركنا اجتماعنا هذا آملا أن يستفيد مما نطرحه من أمور .
رد الأب وقد سعد بما حققه ابنه اليوم فها هو يرى هذا الداعية الصغير يحاول أن ينهض ببعض مهامّه التي يعده لها منذ اليوم .
– بارك اللّه فيك يا بني وأجزل لك المثوبة لا بأس يا بني أهلا ومرحبا بصديقك معنا فنحن لا نكتم علما ولا نبخل به .
– شكرا يا والدي فذاك ما توقعته وسأخبر عبد اللّه غدا بموافقتك .
وتابع الأب حديثه مع ابنه قائلا : اعلم يا بني أن اللّه في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه ، وأنت اليوم كنت في عون أخيك ومساعدته على أداء عبادة من أجلِّ العبادات ، فكان اللّه في عونك ، وما تم معك اليوم من هداية صديقك إنما هو بعون وفضل من اللّه ، والآن اذهب يا بني راشدا وانظر ماذا وراءك .
غادر أحمد والده وهو يتمتم شكرا للّه على نعمائه وعونه فيما سعى إليه من خير .
أخذت أسماء تتقلب في فراشها يمينا وشمالا متمتمة بكلمات تعكس مقدار تذمرها من عدم استطاعتها النوم في دعة وهدوء . . مظهرة التأفف من والدتها المريضة التي قطعت عليها لذيذ نومها بالسعال الذي لازمها طويلا ، لم تنهض أسماء من نومها لمساعدة والدتها وسؤالها عما ألمَّ بها أو حتى إحضار كوب من الماء لها يريحها من هذا السعال . . بل ظلت تتقلب في الفراش وكأن أمر هذه المرأة الراقدة لا يعنيها في شيء .
كانت الأم تعاني من داء في صدرها أوهن جسدها وتركها طريحة الفراش تلازمه أياما وتغادره أياما أخرى ، بعد أن كانت مضرب المثل بين جاراتها في الحيوية والنشاط والإقبال على العمل ، فقد توفي زوجها منذ عشر سنوات ومنذ ذلك الوقت وهي تعمل بلا كلل أو ملل ، لم تركن إلى الكسل ولم تقبع في دارها منتظرة هبات المحسنين وأعطياتهم . . ورضيت بقضاء اللّه وقدره ، فلم تسخط ولم تتذمر ، وهذا هو شأن المؤمنين في كل أحوالهم ، الرضا بما قسم اللّه لهم من خير ومن شر ، مؤمنين حق الإيمان بقول اللّه تعالى : قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا . فشمرت هذه المرأة الصابرة عن ساعديها وعملت مستخدمة في مدرسة بالقرب من منزلها . . فلم تدّخر جهدا ولم تتوان عن تلبية احتياجات صغيرتها وتوفير سبيل العيش الكريم لها . وظل هم هذه الوالدة الطيبة هو أن تعيش ابنتها في جو من الأمن والأمان بعيدا عن الخوف من النائبات وما قد تأتي به الأيام من معضلات .
انقطع صوت السعال ولم ينقطع تفكير أم أسماء في حالها وحال صغيرتها بعد أن أقعدها المرض وازدادت حاجات ابنتها حتى أرهقتها مطالبها . . وأخذت تضيق عليها غير آبهة بظروف والدتها .
لم تنم الأم في تلك الليلة بل لعلها لم تغف لحظة واحدة ، وكيف لقلبها المؤرق أن يغفو ولعينها الباكية أن تنام ، ومر الليل عليها ثقيلا حتى ارتفع صوت المؤذن في جلال وخشوع ينبه الغافلين ويوقظ النائمين لأداء صلاة الفجر ، فنهضت الأم متحاملة على نفسها متكئة بإحدى يديها على الجدار وباليد الأخرى تحاول بعث القوة في ظهرها الذي أضعفه المرض .
أدت أم أسماء الصلاة وأخذت تناجي ربها بذلة وخضوع ودمع يبلل خديها ، سائلة إياه أن يعينها على تربية ابنتها وأن يهبها الصحة وأن يهدي قلب هذه الفتاة الصغيرة العاقة إلى طريق الحق ؛ لتعرف عظم مسؤوليتها تجاه والدتها التي تعبت من أجلها كثيرا وأن يزيل الغشاوة عن عينيها لترى ما خفي عليها من واجبات تجاه أمها .
اتجهت أم أسماء لإيقاظ ابنتها التي كانت تغط في نوم عميق ، ناسية أن لها والدة مريضة يتعين عليها النهوض باكرا لمساعدتها وإعداد طعام الإفطار بدلا عنها ، وترك الاعتماد على والدتها في كل شأن من شؤون حياتها .
أحضرت الأم الطعام وقدمته أمام ابنتها ولكنها عجبت حين رأتها لا تمد يدها إليه فسألتها بحنان الأم ولهفتها .
– ما بالك يا ابنتي ؟ لم لا تأكلين ؟
أظهرت أسماء عدم الرضا وردت بغلظة : ما هذا يا أماه ألا يوجد لدينا غير هذا الطعام الذي تقدمينه لنا كل يوم ؟ .
ردت الأم وقد آلمها ما تفوهت به ابنتها من حديث يسخط اللّه : احمدي اللّه يا ابنتي على هذا النعيم الذي أمامك فغيرك قد لا يجد ما تجدين الآن .
أجابت أسماء وكأنها لم تسمع ما قالته والدتها . . وما شأني بغيري . . ألا تكسبين مالا . . ألا تملكين نقودا . . فلماذا التقتير والتضييق علينا ؟
فما كان من الأم إلا أن تجاهلت حديث ابنتها الذي لا طائل منه وحثتها على الإسراع حتى لا تتأخر عن المدرسة . . وحين رأت أسماء أن والدتها سترافقها إلى المدرسة شأنها قبل أن تأخذ إجازة بسبب المرض . . سألتها وقد قطبت حاجبيها : ما هذا يا أماه هل ستذهبين معي اليوم أيضا . . ألم تقولي بأنك ستغيرين مكان عملك وتبحثين عن عمل في مكان آخر بعيدا عن المدرسة التي أنا فيها ؟ .
لم تجب الأم على سؤال ابنتها بل تمتمت وهي تدفعها برفق إلى الباب :
– هيا يا ابنتي هداك اللّه وأنار بصيرتك .
ظلت الأم تفكر طوال الطريق في طلب ابنتها الذي لا يخلو من القسوة ، وتمنت لو أنه كان باستطاعتها العمل بعيدا عن ابنتها ، ولكن لا يوجد في الحي الذي تقطنه غير هذه المدرسة وليس لديها القدرة على تأمين أجرة حافلة تقلها إن هي انتقلت للعمل بعيدا عن المنزل . . كانت الأم في قرارة نفسها تشعر بأسى بالغ لهذه القسوة التي تتجلى في طلب ابنتها . . ولكنها كانت تتمنى لو استطاعت البعد عن المدرسة وإسعاد فتاتها وتجنيبها الخجل الذي تحسه حين ترى والدتها وهي تعمل كخادمة في المدرسة .
وفي هذا اليوم قامت المعلمة بإعطاء الطالبات بطاقات الدعوة لأمهاتهن لحضور الحفل الذي سيقام تكريما للأمهات بعد أسبوع . . ووجدت المعلمة أنها فرصة سانحة لحث الطالبات على بر أمهاتهن والعمل على توفير الراحة لهن ، والتنبيه على عظم فضل الأم وحقها عليهن ، وذكرتهن بقول اللّه تعالى في محكم تنزيله : وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ . وأوضحت لهن أن معنى وهنا على وهن أي ضعفا على ضعف ، ولفتت أنظارهن إلى أن توصية الولد بالوالدين قد تكررت كثيرا في القرآن الكريم وفي وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكن توصية الوالد بولده لم تتكرر كثيرا ؛ لأن الفطرة تقتضي أن يكون الأب مشفقا على ولده فهو لا يحتاج إلى تلك التوصية في حين أن الولد لا يكون في مشاعره وعواطفه وسلوكه نحو والديه كما هما معه لذلك فهو في حاجة إلى الوصية المكررة . . كما بينت لهن المعلمة عظم المسؤولية الملقاة على عاتق الأم من حمل وإرضاع وتربية ، وما تقدمه من بذل وما تحتمله من نصيب أوفر في العطاء والتضحية ، وكيف أن اللّه قد قرن رضاه برضا الوالدين في الآية السابقة .
كانت أم أسماء امرأة يحبها الجميع لدماثة خلقها وطيب معشرها وإخلاصها في عملها ، وكانت مديرة المدرسة تعلم مقدار التفاني الذي تظهره هذه المرأة لخدمة الجميع بنفس راضية ، وما تقدمه في سبيل تربية ابنتها تربية صالحة قويمة . . وما أشد دهشة أم أسماء حين استدعتها المديرة في ذلك اليوم وسلمتها بطاقة دعوة خاصة تقديرا من إدارة المدرسة لجهودها ونشاطها وشددت عليها في الحضور وأعفتها من العمل في ذلك اليوم ، فما كان من أم أسماء إلا أن شكرت المديرة على هذه البادرة الطيبة ووعدت بالمجيء .
توالت فقرات الحفل من أناشيد وخطب وأحاديث تحث على بر الأم وتبرز دورها العظيم وحقها الكبير من البر والصلة . . ندمت أسماء على فعلتها المشينة حين أقدمت على تمزيق بطاقة الدعوة الخاصة بوالدتها ، وانهمرت الدموع من عينيها حين رأت الطالبات وهن يتقاطرن للسلام على أمهاتهن ، وازداد نحيبها وهي تتذكر سوء سلوكها مع والدتها مع ما هي عليه من ضعف ومرض ، وأخذت العزم على أن تعوض والدتها ما فرطت معها في أمرها وأن تكون الابنة البارة التي لم تكنها يوما .
بقيت أسماء غارقة في لجة أفكارها ولم ينتزعها منها إلا صوت مقدمة الحفل وهي تعلن اسم الأم المثالية التي اختارتها المدرسة لتكريمها هذا العام ، ولَشَدِّ ما كانت عليه دهشتها وفرحتها حين سمعت اسم والدتها يجلجل في أنحاء القاعة وما أكبر اعتزازها حين رأتها وهي تقطع خطواتها بكل ثقة وهدوء وآثار المرض بادية عليها ، وقد ارتدت ثوبا بدا عليها جميلا في تلك اللحظة رغم أنها قد ارتدته كثيرا قبل اليوم لكنها لم تره عليها بمثل هذه الروعة وهذا البهاء .
هرعت أسماء حيث والدتها وأخذت تقبلها والدموع تفر من عينيها وقد فارقها إحساسها بالخجل والضعة وحل محلهما شعور الفخر والاعتزاز بهذه الأم الرءوم ، ولم تكن سعادة الأم بأقل من سعادة ابنتها بهذا التغير الذي من اللّه عليها به مستجيبا لدعائها راحما لحالها . . ومنذ ذلك اليوم وصديقتنا أسماء تحاول جاهدة إرضاء والدتها والسهر على راحتها والعمل بقول اللّه تعالى : وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا .
أخذت الشمس تلوذ بأحضان الأفق شيئا فشيئا مودعة أول يوم من أيام شهر رمضان المبارك ونسيمات رقيقة تداعب الأشجار هنا وهناك فتضفي الكثير من الجمال على هذا الأصيل الأخّاذ الذي ألقى بظلال السكينة على مدينة الرياض الهادئة ، شأنها شأن كل البقاع الإسلامية في ذلك الوقت من أيام رمضان ، حيث خلت الشوارع من المارة إلا القليل منهم ، وأخذ العاملون في الأسواق والدكاكين يستعدون لإغلاق أبوابها تأهبا لمغادرتها لتناول الإفطار وأداء صلاة المغرب .
وفي منزل الشيخ عبد اللّه كان الأبناء في حركة دائبة يساعدون والدتهم في إعداد الطعام وتجهيز المائدة ، في حين اتخذ الأب ركنا قصيا من أركان حجرته مختليا بنفسه مع كتاب اللّه يتلو بكل خشوع متدبرا فيها بقلب حاضر وذهن صاف حتى إذا وصل في تلاوته قول اللّه تعالى : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ . صمت هنيهة ثم أعاد قراءة الآية ثانية وثالثة
فطفرت الدموع من عينيه وبللت لحيته ، فقد هزت تلك الآية وجدانه بما تحمله من أمر ونهي عظيمين ، وحركت معانيها كوامن الشجن فيه ، وزلزلت أعماقه الراكدة الآسنة كل هذه السنين فكأنه يقرأ هذه الآية لأول مرة في حياته ، آه لقد تذكر في تلك اللحظة أخاه الأصغر عبد الرحمن الذي لم يره منذ خمسة أعوام حين وقع بينهما ذلك الخلاف الذي أدى إلى هذه القطيعة التي طال أمدها ، وخيم الحزن على عبد اللّه وسربله الأسى وهو يتذكر ذلك ، وندم على ما فرط في حق أخيه ، فكيف لم يزره كل هذه السنين الطوال وقد علم بمرضه مرضا شديدا ، وكيف لم يسأل عنه ويتفقد أحواله وهو يعلم رقة حال أخيه وكثرة عياله . . مضى عبد اللّه يعاتب نفسه ويسأل بمرارة كيف يصل القريب والغريب ، والقاصي والداني وينسى أخاه أحق الناس ببره وصلته وإحسانه ، هذه الصلة التي هي من المبادئ الأساسية التي أقرها الإسلام للتكافل بين أفراد المجتمع عامة وأفراد الأسرة خاصة . . كيف له أن ينسى أخاه من بره وقد حفظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أنس – رضي اللّه عنه – أنه قال : من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه . يا إلهي لعل كساد تجارتي كل هذه الأعوام هو عقاب من اللّه تعالى على ما فرطت في أمر أخي . هكذا مضى عبد اللّه يحادث نفسه وتابع حديثه متأملا فيما وصل إليه حاله مع أخيه : لعلها تذكرة لي لأفيق من غفلتي التي طال ليلها . . لقد حفظت كتاب اللّه تعالى ووعيت أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم وعملت جاهدا أن امتثل بهما . . فكيف أقطع أخي وقد وعيت قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إن اللّه تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة ، قال : نعم ، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك . قالت : بلى . قال : فذلك لك .
سرت رعدة في جسد الشيخ عبد اللّه حين تذكر هذا الحديث خوفا من عقاب اللّه على هذا الذنب ، وأي عقاب أشد من أن يقطعه اللّه ، لقد ظل سادرا في غفلته كل هذه السنين لم يوقظه منها إلا رحمة اللّه تعالى حين كان يتدبر قرآنه . . فانتهى به التأمل ومحاسبة النفس إلى العزم على زيارة أخيه بعد صلاة العشاء ، فشهر رمضان هو شهر الخير والبر والصلة ، وسيبدأ إن شاء اللّه هذه الليلة وصل ما كان مقطوعا بينه وبين أخيه . . وظل هذا الشيخ غارقا في تأملاته وأفاق من حديثه مع النفس على صوت زوجته تدعوه للانضمام إليهم على المائدة .
رفع المؤذن صوته مؤذنا بدخول وقت صلاة المغرب ، ودوّى مدفع الإفطار ، وشرع أفراد الأسرة في تناول حبات الرطب بأناة غير أن محمد بادر في تناول الطعام على عجل ، فهذا اليوم هو أول عهده بالصيام وقد أمضّه الجوع ، فتبسم والده شفقة عليه حين رأى منه ذلك وخاطبه برفق قائلا :
سم اللّه أولا يا بني ثم ابدأ إفطارك بتناول حبات من الرطب اقتداء برسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعملا بسنته ، فقد أخبر أنس – رضي اللّه عنه – : أن رسول اللّه كان يفطر قبل أن يصلي على رطبات ، فإن لم يكن رطبات فتميرات ، فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من ماء .
وتابع الأب حديثه قائلا :
ولا تنس يا بني أن تدعو بعد إفطارك بعض الدعاء المأثور عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كأن تقول : " اللهم إني لك صمت وعلى رزقك أفطرت وعليك توكلت وبك آمنت ، ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء اللّه " .
استمع محمد إلى حديث والده بأدب جم ووعده بأن يحفظ هذا الدعاء وأن يدعو به كل ليلة بعد الإفطار وأن يكون إفطاره تأسيا برسول اللّه ، واعتذر لوالده عن هذه العجلة التي التهم بها طعامه قائلا :
لقد أهلكني الجوع يا والدي لذا لم أستطع صبرا .
وهنا عاتبته والدته بتفضيله النوم حين أيقظته لتناول طعام السحور ونبهته إلى أهمية هذه الوجبة وبركتها كما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : تسحروا فإن في السحور بركة .
أعلم يا أمي ذلك وسأحاول التغلب على النعاس ومشاركتكم طعام السحور إن شاء اللّه .
اتجه الأب وأبناؤه إلى المسجد لأداء فريضة المغرب ، وحين عادوا كانت الأم قد أعدت لهم الحلوى والشاي وجلسوا يتسامرون في جو عائلي مفعم بأريج الحب والتفاهم والود الصادق . . وحين انقضى بعض الوقت طلب الأب من زوجته وأبنائه التهيؤ لأنه سيصحبهم في زيارة ، وحين سمع الصغار ما ذكره والدهم قفزوا فرحا والتفوا حوله متسائلين بلهفة وسعادة .
إلى أين يا أبي ؟
رد الأب وقد كسا الحزن وجهه :
لزيارة عمكم يا أبنائي . .
تساءل أصغر أبنائه : أي عم يا أبي ؟
أجاب الأب بصوت كساه الانكسار وبعض الخجل : عمك عبد الرحمن يا بني فأنت لا تعرفه .
ولماذا يا أبي لم نره أبدا ؟ .
حاول الأب أن يشرح لابنه بكلمات بسيطة سهلة كيف أنه أخطأ في حق أخيه حين بادر بالقطيعة والهجر كل هذه المدة . . وواصل حديثه مبينا لأبنائه الأجر الذي أعده اللّه لمن يصل رحمه ، حيث يزيد في عمره ويبارك له في رزقه ، وأن من قطع هذه الرحم وهجر أهله وقرابته وذوي رحمه فجزاؤه قطيعة من اللّه .
فرحت الأم فرحا شديدا وحمدت اللّه على أن هدى قلب زوجها إلى الحق وأنار بصيرته ليعرف حق ربه عليه ، وأخذت تتهيأ هي وصغارها للذهاب مع زوجها لزيارة أخيه .
وفيما كانت الأسرة في شغل شاغل من أمر الإعداد لهذه الزيارة التي أضفت جوا عامرا بالسعادة على جميع أفرادها قرع جرس المنزل ، ولم يصدق الشيخ عبد اللّه نفسه حين رأى أخاه عبد الرحمن أمامه وقد جاء لزيارته وتعانقا طويلا وتصافحا بحرارة ، ولم يتعاتبا على ما بدر منهما من تفريط في حق الإخوة وقطع الرحم التي بينهما ، فقد كان هذا اللقاء كفيلا بأن يمسح كل ما كان من أثر لتلك القطيعة والبغضاء .
هرع الصغار للسلام على عمهم والتفوا حوله بكل حب وذكروا له كيف أنهم كانوا يستعدون لزيارته بناءً على طلب والدهم لولا أنه سبقهم ، نظر عبد اللّه إلى أخيه بإشفاق وقال :
دائما أنت سباق للخير يا أخي رغم أنك تصغرني سنا بارك اللّه فيك .
رد عبد الرحمن وقد استكثر على نفسه هذا السبق : لقد كنت أنت أيضا يا أخي عازما على زيارتي فكلانا كان سباقا للخير وما يعنينا الآن هو أن نبدأ عهدا جديدا بعيدا عن القطيعة والشحناء والتدابر فذاك أمر يحبه اللّه ورسوله الكريم .
أمضى الشيخ عبد اللّه وأبناؤه مع أخيه هزيعا من الليل في سمر حتى دخل وقت صلاة العشاء فاتجهوا إلى المسجد لأداء صلاة العشاء والتراويح .
اللّه أكبر اللّه أكبر ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، هاهو النداء الخالد ينساب عبر المآذن يعلن دخول وقت صلاة الفجر فيلقي في النفوس الأمن والطمأنينة ويغسل القلوب من أدران الهموم ويزرع السكينة في الأرواح المتعبة ، وهاهي خيوط الفجر الندية تعانق المدينة الهادئة وتدعوها بحنان لنفض غبار الكسل عن جفونها واستقبال بشائر يوم جديد ، وهاهم المؤمنون يسارعون إلى المساجد ملبين ذلك النداء وهم يعلمون روعة هذه التلبية ليؤدوا صلاة الفجر جماعة . . حتى الطيور هجرت أعشاشها لتشارك بقية الكائنات في موكب التسبيح والتهليل لعظمة الخالق فأخذت تغرد بصوت شجي يأسر الألباب .
ولم تبخل الأزهار التي بللها الندى فعطرت الأرجاء بشذاها الندي . . ورغم روعة هذا الاحتفال إلا أن أحمد لم يعتد أن يحضر هذا المشهد الرائع لميلاد يوم جديد ؛ إذ لم يكن تلميذا نشيطا ، فاستيقظ من نومه كعادته متثاقلا حين غمرته أشعة الشمس المتسللة عبر النافذة تدعوه للنهوض ، فاتجه إلى الحمام وغسل وجهه ويديه وعاد إلى غرفته وارتدى ثيابه على عجل ، وأخذ في رحلة البحث عن حذائه الذي لم يجده في مكانه ، فخرج من غرفته مسرعا حيث والدته تعد طعام الإفطار وبادرها قائلا :
أمي لم أجد حذائي في غرفتي .
نظرت الأم إلى ابنها نظرة ملؤها العتاب وأجابت برفق :
يا بني إن أول شيء كان يجب عليك بدء حديثك به هو إفشاء السلام ، ألم تتعلم في المدرسة حديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والذي يروى فيه عنه أنه قال : لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم .
آسف يا أماه . . السلام عليكم .
وعليكم السلام ورحمة اللّه وبركاته .
وتابعت الأم حديثها قائلة . . ألم أعلمك أن ترتيب الأشياء والمحافظة عليها في مكانها يوفر عليك الكثير من العناء والوقت الذي سيسألك الله عنه يوم القيامة ، فإلى متى تظل هكذا لا تدرك قيمة الوقت ، ومتى تبتعد عن الفوضى والإهمال ؟ .
سأفعل إن شاء اللّه في المرة القادمة ، ولكن أين حذائي الآن لقد تأخرت عن المدرسة ؟ .
ابحث عنه في الحديقة فلعلك نسيته ليلة البارحة حين كنت تلعب مع أخيك .
خرج أحمد إلى الحديقة يبحث عن حذائه فوجده وقد اتسخ فعاد مسرعا إلى غرفته يحاول تنظيفه ، ثم قام بترتيب كتبه في حقيبته التي لم يعدها بالأمس ، فقد اعتاد أن يؤجل عمل اليوم إلى الغد . . وأخذ يفكر في عذر يقدمه لمعلمه هذا اليوم حين يسأله عن الواجب المدرسي الذي أهمله ولم يكتبه بالأمس ، فهو يكره مادة التعبير فما عساه يقول للمعلم . . ما عساه يقول ؟ ! .
ظل أحمد يردد هذا السؤال بينه وبين نفسه وأسرع لتناول طعام الإفطار مع أسرته ، وشرع في تناول الأكل دون أن يسمي اللّه فوبخه والده بلهجة قاسية على هذا التصرف وذكره بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نصح غلاما : يا غلام سم اللّه وكل بيمينك وكل مما يليك .
ودع أحمد والديه وانطلق مسرعا حين سمع صوت حافلة المدرسة وهي تقف أمام الباب .
قرع جرس المدرسة معلنا بدء اليوم الدراسي ، ومضت الحصة الأولى فالثانية فالثالثة . . تدافع التلاميذ بعدها إلى الساحة الخارجية لتناول إفطارهم ، ولكن أحمد لم يخرج مع أصدقائه إلى الخارج بل بقي قابعا في مقعده يفكر فعاد إليه صديقه علي ودنا منه وسأله باهتمام وود صادق :
– ما بك يا أحمد ألا تخرج معنا لتناول إفطارك ؟
– لا ، إني متعب وأريد البقاء في حجرة الدراسة .
– أترغب في مساعدة أقدمها لك ؟
أجاب أحمد وقد بدا عليه الضجر .
– لا أريد شيئا ، يمكنك الانصراف فأنا أستطيع تدبر أمري . .
– لا بأس عليك أستودعك اللّه .
وانطلق علي إلى الخارج وبقي أحمد وحيدا في قاعة الدرس .
دخل المعلم الفصل وألقى السلام على التلاميذ وسألهم عن الواجب المنزلي ، وذهل علي حين فتح كراسته ولم يجد ما كتبه بالأمس فسأله المعلم :
– أين واجبك يا علي ؟
– لقد كتبته ليلة البارحة ولكني لا أجده الآن .
– فأين هو إذا . .
رد علي بأدب وقد استبدت به الحيرة والانزعاج :
– إني في حيرة من أمري يا معلمي ولكني متأكد أنني كتبته .
– أتكذب يا علي وأنت من التلاميذ المجدين ؟ ! . . سأسامحك هذه المرة لأنها المرة الأولى التي تهمل فيها أداء واجبك وأرجو ألا يتكرر منك ذلك .
وبدأ المعلم في سماع التلاميذ وهم يقرؤون موضوعاتهم واحدا واحدا حتى جاء دور أحمد وحين انتهى من قراءة موضوعه استأذن علي معلمه في الحديث ، وذكر أن ما قرأه أحمد عليهم هو موضوعه الذي لم يجده في كراسته وأن أحمد سرقه بلا شك . . فالتفت المعلم إلى أحمد يسأله إن كان ما ذكره صديقه علي حقا .
فأجاب أحمد وقد خشي أن يفتضح أمره :
– لا ، ليس حقا ما يقوله علي ، فقد سهرت ليلة البارحة من أجل إعداده فكيف له أن يدعي أنه صاحب الحق في هذا الموضوع .
وأمام إصرار أحمد وتمسكه بقوله توجه المعلم بحديثه لعلي يعنفه على كذبه ثانية وإهماله ومحاولته سرقة تعب غيره ، ثم أثنى على براعة أحمد في طرح الموضوع وطلب منه الاستمرار على هذا المستوى فهو يرى أنه قد تحسن كثيرا .
عاد علي إلى المنزل حزينا متألما ، وحين سأله والده عن سبب حزنه ذكر له ما حدث معه في المدرسة . . وكان والد علي رجلا عاقلا رزينا لا يترك الغضب يستولي عليه ويفقده القدرة على التفكير السليم والتروي في حل المعضلات وقد أدرك صدق ما رواه ابنه ؛ فقد رباه فأحسن تربيته ، وبكلمات ملؤها الرضا والثقة باللّه طمأن الأب ابنه بقوله :
– لقد ظلمت يا بني وإن اللّه على نصرك لقادر ، فاجعل توكلك عليه وكن على ثقة به ، فقد قال تعالى في كتابه العزيز : وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ .
– هل تعني يا والدي أن أحمد سيقر غدا بما فعل ؟
– قد يكون هذا يا بني وقد يحدث أمر آخر يظهر به صدقك ، فأنت صدقت المعلم القول وصديقك أحمد كان كاذبا ، والصدق طمأنينة والكذب ريبة كما ذكر رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة . فكن مطمئنا ؛ لأن كذبه سينقلب عليه ويظهر اللّه الحق الذي لك فلا تعجل .
– آه يا والدي لقد أثلجت صدري بهذه الكلمات المضيئة ، وإني لعلى يقين بأن اللّه معي . . وفيما هما يتحادثان لمع في ذهن الأب خاطر ذكي فسأل ابنه على الفور :
– هل قمت بكتابة الموضوع في الكراس من المرة الأولى أم أنك كتبته في ورقة خارجية أولا ؟
رد علي بحماس ظاهر وقد قفز إلى ذهنه ما يفكر فيه والده :
– تذكرت يا أبي لقد استعنت بورقة خارجية قبل كتابته في الكراس .
– أطلع معلمك غدا على هذه الورقة ودعه يقارن بين ما كتبته فيها أنت وما قرأه زميلك .
وسترى يا بني كيف أن اللّه مع عباده الصادقين لا يخذلهم .
فرد علي ولكن الفرح لم ينسه شكر اللّه وحمده على هذه النعمة بإظهار الحق واستشعر عظمته وقدرته فهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .
وفي اليوم التالي قدم علي لمعلمه الورقة ، وحين قرأها وجد أن الموضوع مطابق لما ادعى أحمد أنه كتبه ، وحين أعاد المعلم الكراسات للتلاميذ خاطبهم قائلا :
لقد كان صديقنا علي صادقا فيما رواه بالأمس عن موضوعه الذي كتبه واختفى من الكراس . . وطلب منه أن يقرأه أمام التلاميذ ، وحين بدأ بالقراءة أحس أحمد بالخوف والخجل وأدرك أن أمره قد افتضح وأنه سيعاقب على فعلته الشنيعة . وحين أنهى علي القراءة سأل المعلم أحمد بشيء من القسوة :
– أنت تزعم أن هذا الموضوع بفضل جهدك وسهرك ، فهل تفسر لنا كيف حصل صديقك على هذا الموضوع الذي قرأه الآن والذي يتطابق تماما مع موضوعك ؟ ! .
أدرك أحمد أنه لا فائدة من الإنكار بعد أن وصلت الأمور إلى هذا الحد ، فاعترف لمعلمه بما اقترفته يداه وكيف قام بسرقة ما خطه صديقه علي في غفلة منه . فسأله المعلم بتعجب :
– أتبحث عن النجاة من عقاب المعلم ولا تخاف عقاب اللّه الذي لا مفر منه ؟ ألم تقرأ قول اللّه تعالى في كتابه العزيز : وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ سورة الحديد ، الآية : 4 . أي أنه يعرف كل صغيرة وكبيرة تقوم بها ، أنت كذبت وخالفت أمر اللّه حين قال : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ . . ألم تعلم أن الكذب خصلة من النفاق ؟ فقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها : إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر .
اعلم يا بني أن الصدق فضيلة امتدحها القرآن الكريم وذم أهل الكذب ، ولقد كان رسولنا الأمين صلى الله عليه وسلم لا ينطق إلا صدقا ولا يقول إلا حقا ، فما أحرانا ونحن خير أمة أخرجت للناس أن نتلمس دربه وأن يكون هو مثلنا الأعلى وقدوتنا في كل أمورنا وألا نستمع لوساوس الشيطان ، فهل تعدني يا بني أن تترك الكذب وتتخذ من الصدق شعارك ؟ . .
أجاب أحمد وهو منكس رأسه خجلا مما اقترف :
– أعدك يا معلمي ، فقد كان هذا درسا قاسيا .
– والآن بقي عليك أمر آخر وهو الاعتذار لصديقك عما بدر منك في حقه .
– آسف يا علي لقد كنت مخطئا فيما فعلت فسامحني .
فرد علي بلطف وقد نسي إساءة أحمد له :
– لا بأس عليك يا صديقي إني أسامحك فنحن أخوة بيننا كل الود الذي يسمح لنا بالتسامح . سعد المعلم بهذه الخاتمة وشكر عليا على نبله وتحدث للتلاميذ قائلا :
– هاهو صديقنا علي يذكرنا بفضيلة أخرى وهي التسامح بين الإخوة ونسيان الإساءة . . آمل أن نكون جميعا مثله .
وأصبح أحمد بعد ذلك يتحرى الصدق في كل ما يقول ويعمل .
اعتاد الأب أن يصحب ابنه عبد اللّه في نزهة إلى إحدى الحدائق عصر يوم الجمعة بعد أن يكون قد أنهى واجباته المدرسية وأدى ما عليه من مهام تتعلق بالأسبوع الدراسي المقبل . . ولم يكن الأب يقوم بهذه النزهة مع ابنه إن قصر في بعض واجباته أو أهمل شأنا من شؤونه أو ارتكب ذنبا كأن يغضب أحد والديه أو يعصي أوامرهما ، فكانت هذه النزهة بمثابة مكافأة لعبد اللّه على حسن سلوكه في شتى أموره . . فإن قصر في شيء أو أظهر سلوكا لا يرضي والديه كان الحرمان من تلك المكافأة هو خير عقاب له .
خرج عبد اللّه عصر ذلك اليوم كالمعتاد مع والده وقد سمعه يتمتم بكلمات بصوت خافت حين غادرا المنزل ، وكان كثيرا ما يسمع والده يتمتم بها ولكنه لم يسأله عنها قبل اليوم ، فالتفت تجاه والده يسأله بفضول ظاهر :
ما الذي تقوله يا والدي كلما خرجنا من المنزل ؟
انفرجت أسارير والد عبد اللّه عندما سمع سؤال ابنه الذي بدأ يتشوق إلى المعرفة ، وقد كان الأب حريصا كل الحرص على أن ينشأ ابنه على حب اللّه ورسوله واتباع سنة نبيه والاقتداء بهداه في كل شأن من شؤون حياته . . ولكن عبد اللّه مازال صغيرا ولم يكن الأب يرغب أن يثقل عليه بكثرة الأوامر والنواهي حتى لا يمل قلبه الغض الصغير ، وإنما كان يلقنه ما يراه مناسبا لسنه ومداركه شيئا فشيئا كنبتة صغيرة تروى بالماء قطرة قطرة . . ولكن الفتى الصغير هو الذي يسأل الآن ، يحدوه الشوق إلى المعرفة ، ولعل ما سيقوله الوالد الآن سيكون أجمل وقعا وأقوى أثرا في نفس هذه الطفولة الصافية التي تتشوق لمعرفة كل ما تقع عليه عيناها وما تسمعه أذناها وما يعيه عقلها .
رد الأب بفرح ظاهر .
إنه دعاء الخروج يا بني ، وهو دعاء كان يدعو به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . .
رد عبد اللّه . . هل لي أن أسمعه منك يا والدي ؟
سأل الأب ابنه برفق : وهل تحب أن تحفظه يا بني ؟
رد الفتى : نعم يا والدي ، وإن كان دعاءً مطولا فسأقسمه إلى أجزاء حتى يتسنى لي حفظه كاملا . .
– بارك اللّه فيك يا بني . . إن من يهم بالخروج من منزله عليه أن يقول : بسم الله ، توكلت على الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل أو أزل أو أزل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي . هذا هو الدعاء الذي أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعاء به عند الخروج من المنزل .
رد عبد اللّه مبتهجا :
سأبدأ بحفظه – إن شاء اللّه – يا والدي ، ولكن لماذا نقول هذا الدعاء قبل أن نخرج من المنزل ؟
يا بني حين يخرج المرء من منزله يقابل الكثير من الناس ومن هؤلاء من يتغلب الشر في داخله على الخير ، فقد يتعرض للظلم والإساءة منهم ، وقد يكون هو بنفسه ظالما لغيره إن تغلب الشر في داخله ، فالإنسان في هذا الدعاء يطلب من اللّه أن يعصمه من الزلل والوقوع في الخطأ . . كما يطلب من اللّه الحماية من ظلم الآخرين له أو جهلهم عليه . .
وهكذا قطعا الطريق إلى الحديقة وهما يتحادثان . . حتى إذا وصلا انطلق عبد اللّه يلهو هنا وهناك ، تارة يلعب الكرة وتارة أخرى يعتلي الأرجوحة وقد امتلأ سعادة وحبورا ، وبينما كان الأب يرقب ابنه بحنان الأب ولهفته مر به رجل مسن رث الثياب غائر العينين يمشي بخطى متثاقلة وشيئا فشيئا اقترب من والد عبد اللّه ومد يده على خجل وأخذ يشكو له ضعف حاله وقلة حيلته في الحصول على مال يعول به نفسه وقد أسلمه المرض للضعف وعدم القدرة على السعي في مناكب الأرض يأكل من رزقها . . فما كان من والد عبد اللّه حين سمع شكوى الرجل إلا أن أدخل يده إلى جيبه بدافع الشفقة والرحمة وأخرج بعض المال وقدمه للرجل معتذرا عن عدم استطاعته تقديم المزيد طالبا من الدعاء له بالخير والبركة . . سر الشيخ بهذا العطاء ورفع يديه إلى السماء يدعو لهذا المحسن الذي لم يبخل عليه بل أعطاه الكثير ويرى أنه شيء قليل ، ومضى هذا الشيخ يغذ السير بخطى بدت لوالد عبد الله وكأنها أشد ثباتا من خطواته الأولى ، وكأن هذه الصدقة البسيطة ألقت عليه رداء الأمن والأمان . . حمد الأب وشكر اللّه على هذه النعمة حيث جعله قادرا على الإحسان للفقراء والمساكين .
كان عبد اللّه يرقب ذلك المشهد بصمت وقد توقف عن اللعب حين رأى والده يتحدث مع ذلك الشيخ ويمد يده إليه بشيء ما لم تبيُّنه من بعيد ، وحين مضى الشيخ أسرع إلى والده وسأله بدهشة .
من هذا الذي كنت تتحدث معه يا والدي ؟
إنه رجل مسكين يا بني .
لقد رأيتك تعطيه شيئا فما هو يا أبي ؟
يا بني لعلك لاحظت كيف كانت هيئة الرجل وما كانت عليه حاله من ضعف ومرض وفقر . . لقد كان محتاجا لما يسد به رمقه ، فلقد داهمه المرض نتيجة الجوع ، وأحمد اللّه على أن ساعدني على أن أعطيه بعض المال يحسن به شيئا من أحواله .
أردف عبد اللّه متسائلا بقلق :
وهل أعطيته كل ما معنا يا أبي ؟
ولماذا تسأل يا بني ؟
لأنني أخشى أن تكون قد أعطيته كل ما معنا من النقود فلا نجد ما نشتري به الحلوى والسكاكر والعصير .
– يا بني إن ما قدمته للشيخ هو صدقة والصدقة لا تنقص مال المرء ، بل تعمل على زيادته من حيث لا يحتسب وقد قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم : ما نقصت صدقة من مال ، وما زاد اللّه عبدا بعفو إلا عزا ، وما تواضع أحد للّه إلا رفعه اللّه عز وجل . أي أن الصدقة لا تنقص المال ، فلا يخاف أحدنا حين ينفق ابتغاء وجه اللّه ، فاللّه يخلف للمرء ما أنفقه ، فالمال لا يذهب بالإنفاق إنما هو قرض حسن للّه ، مضمون عنده يضاعفه أضعافا كثيرة ، يضاعفه في الدنيا مالا وبركة وسعادة وراحة ، ويضاعفه في الآخرة نعيما ومتاعا ورضا وقربى من اللّه ، استمع يا بني إلى قول اللّه تعالى : مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ .
إن اللّه يا بني يضاعف للمرء أضعاف ما ينفقه ولم يقل ضعفا أو ضعفين ، بل هي أضعاف كثيرة .
فالمال مال اللّه استخلف فيه الإنسان فلا أقل على هذا الإنسان أن يضحي بجزء يسير من هذا المال دون أن يكون له منّ ولا فضل ولا مفخرة يتيه بها ، فاللّه يقول : وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ويقول تعالى : وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ومع هذا فقد كرم اللّه الإنسان حتى سمى ما ينفقه المسلم في سبيل اللّه ويساعد به عباد اللّه قرضا حسنا .
سأل عبد اللّه وقد اطمأن بعض الشيء عند سماع حديث والده :
– أيعني هذا يا والدي أن ما لدينا من المال لن ينفد إن نحن تصدقنا منه ؟
– يا بني إن الصدقة لا تنقص المال كما ذكرت لك في بداية حديثي معك وقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا .
– وما معنى ذلك يا والدي ؟
رد الأب : أي أن الله يخلف للمرء ما أنفقه ، فحين ينفق المرء من ماله يوسع اللّه عليه في رزقه ويخلفه عوض ما أنفقه .
رد عبد اللّه وقد عاوده القلق :
ما يهمني ألا ينفد مالنا .
أجاب الأب : ما لي أراك يا بني قلقا تخاف أن ينفد ما معنا من مال ؟ وتابع قائلا :
اعلم يا بني أن أرفع درجات الإنفاق والسخاء هو الإيثار .
– وما الإيثار يا أبي ؟
أجاب والد عبد اللّه :
إن الإيثار يا بني هو أن تجود بالمال مع الحاجة إليه ، وليس بعد الإيثار درجة في السخاء ، وقد أثنى اللّه على الصحابة – رضي اللّه عنهم – فقال : وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ فقد روي : أنه نزل برسول اللّه صلى الله عليه وسلم ضيف فلم يجد عند أهله شيئا ، فدخل عليه رجل من الأنصار فذهب بالضيف إلى أهله ، ثم وضع بين يديه الطعام وأمر امرأته بإطفاء السراج ، وجعل يمد يده إلى الطعام كأنه يأكل ، ولا يأكل حتى أكل الضيف الطعام ، فلما أصبح قال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : لقد عجب اللّه من صنيعكم الليلة مع ضيفكم . ونزلت : وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ أردف عبد اللّه بشيء من الزهو :
لولا النفقة التي قدمتها يا والدي لهذا الرجل ما استطاع أن يتدبر أمره .
أجاب الأب وقد استاء من الصورة التي جاء عليها حديث ولده :
– لا يا بني ، لا يحق لنا أن نمن بما أعطينا للرجل ، فالمن عنصر كريه لئيم ، وهو نوع من الاستعلاء الكاذب ، ونحن توجهنا بعطائنا للّه لا للناس . . فالمن مشاعر بغيضة لا يجيش بها قلب المؤمن .
أجاب عبد اللّه وقد اعتراه بعض الخجل :
– لم أقصد يا أبي المنّ بقولي .
– تذكر يا بني أن الصدقة والإنفاق تهذيب وتطهير لنفسر المعطي وتذكير له بنعمة اللّه عليه وعهده معه في هذه النعمة أن يأكل منها في غير سرف ولا خيلاء وأن ينفق منها في سبيله في غير منع ولا منِّ ، وهي توثيق لصلة الإنسان بأخيه في اللّه لتقوم الجماعة المسلمة كلها على أساس من التكافل والتعاون الذي يذكرها بوحدة اتجاهها ، وأذكرك أن اللّه نهانا عن أن نبطل صدقاتنا بالمن والأذى . . فهل وعيت الآن يا بني ؟
– نعم يا أبي وإني إن شاء اللّه لمقتد بك وجاعل من السخاء شيمتي ولن أمن أبدا بما أعطي .
– بوركت يا بني .
وقضى عبد اللّه ووالده وقتا ممتعا في الحديقة ثم عادا أدراجهما .
عاد الأب من عمله والأبناء من مدارسهم ، اكتمل شمل الأسرة حول المائدة التي كانت عامرة بما لذ وطاب من أصناف الطعام ، حيث تعددت الأطباق واختلفت الأنواع حتى ليخيل للرائي أن هذه المائدة قد أعدت لعشرين شخصا لا لأربعة أشخاص ، فما كان من عبد الرحمن حين رأى ذلك إلا أن هتف ببراءة الأطفال :
سلمت يداك يا أماه على كل هذا الطعام . . آه كم أنا جائع .
ردت الأم بحنو ظاهر : لقد قضيت اليوم كله وأنا أعد هذه المائدة التي ترونها الآن وآمل أن تحوز على رضاكم وألا يضيع جهدي هباء .
أجاب الأب وقد بدا الوجوم على وجهه :
سلمت يداك يا أم عبد الرحمن ، حقا إنها مائدة شهية عامرة بأصناف الطعام اللذيذ ، ولكنني لا أتذكر أنني أخبرتك بأنني دعوت أحدا للغداء .
أجابت الأم وقد اعتراها الزهو لهذا الإطراء :
أعلم ذلك يا أبا عبد الرحمن ولكنني أحببت أن أسعدكم اليوم بهذه المفاجأة بعد عناء يوم طويل من العمل والدراسة .
لم يجب الأب ولكنه وجه حديثه إلى أفراد أسرته قائلا :
سموا الله واشرعوا في تناول طعامكم .
قضت الأسرة وقتا ممتعا على الغداء تتخلله الأحاديث الشيقة ، ثم اتجه كل إلى حجرته لأخذ قسط من الراحة بعد الغداء . . وحين جن المساء اجتمعت الأسرة في حجرة الجلوس ، دأبها كل ليلة بعد أن يفرغ الأبناء من أداء واجباتهم ؛ ليتناقشوا في أمور دينهم ودنياهم ، وليتزودوا بما ينفعهم ، حيث يقرأ عليهم والدهم أحيانا شيئا من أحد الكتب القيمة . . قامت الأم بإعداد الشاي لهم واتجهت به حيث يجلس أفراد أسرتها وبادرت الأب قائلة :
ماذا أعددت لنا من حديث في هذا المساء يا أبا عبد الرحمن ؟
أجاب الأب :
سيكون حديثنا حول حدث دار في هذا المنزل لمسناه بأيدينا ولاحظناه بأعيننا سنستخلص منه العظة والعبرة .
تساءلت فاطمة بفضول ظاهر :
لقد شوقتني يا أبي لهذا الحديث فما الموضوع يا ترى ؟
مضى والد عبد الرحمن مخاطبا أفراد أسرته :
فعلَّكم لاحظتم اليوم على مائدة الغداء التي أعدتها والدتكم أن بعض الأطعمة التي تعبت في إعدادها لم تمسها أيدينا ، كما تبقى الكثير من الطعام الذي تناولنا منه ، ونحن نشكر لوالدتكم اجتهادها ومحاولتها إسعادنا ولكن هذا لا يمنع أن نقول لها بأنها أخطأت من حيث لا تدري ؛ فأنتم تعلمون أن مثل هذا الأمر يعد إسرافا فمن منكم يا أبنائي يذكر لنا موقف الدين الإسلامي من الإسراف .
أجاب عبد اللّه :
إن ديننا القويم ينهانا عن الإسراف ، وقد تعلمنا ذلك فيما تعلمناه في المدرسة ، وإني لأذكر قول الحق جل وعلا : وَلَمْ يَقْتُرُوا وَوَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا كَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا .
أردفت عائشة متسائلة بحماس ظاهر . . لم أفهم ما تعنيه الآية الكريمة التي ذكرها أخي ، فهل لك يا والدي أن توضح لنا ما تعنيه ؟
أجاب الأب وقد سعد لحماس ابنته وذكائها :
يقول اللّه تعالى في هذه الآية الكريمة إن من صفات عباده حين ينفقون في شتى مناحي حياتهم أنهم لم يسرفوا أي لم يبالغوا في هذا الإنفاق ولم يبذروا ، حيث إنهم لا ينفقون أكثر من حاجتهم ولكنهم في ذات الوقت عباد لا يقترون ، أي : لا يبخلون على أنفسهم أو على غيرهم ، فهم يلتمسون طريقا وسطا بين هذا وذاك ، أي : لا تبذير ولا بخل ، لا إسراف ولا تقتير ، وهذا ما يحبه اللّه في عباده الذين أسماهم عباد الرحمن في محكم تنزيله .
فالمسلم يا أبنائي مأمور بالتوسط ؛ لأن الإسراف مفسدة للمال والنفس والمجتمع ، والتقتير مثله حبس للمال عن انتفاع صاحبه به وانتفاع الجماعة من حوله . . فالمال كما تعلمون أداة اجتماعية لتحقيق خدمات اجتماعية . . والإسراف والتقتير يحدثان اختلالا في المحيط الاجتماعي والمجال الاقتصادي ، والإسلام يريد أن يقيم بناءه على التوازن والاعتدال ، ويبدأ بهذا البناء من نفس الفرد الذي هو أساس المجتمع ، فيجعل الاعتدال سمة من سمات الإيمان بقوله تعالى : وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا وتابع الأب حديثه وهو ينظر إلى أفراد أسرته فردا فردا ما أحرانا أن نتلمّس طريق الحق وننتهجه منهاجا مستمدين النور من القرآن والسنة .
تابعت فاطمة حديث والدها ثم أردفت قائلة : إني لأحفظ من القرآن يا والدي آية عن التبذير ، وذلك من سورة الإسراء التي حفظتها كاملة هذا العام ، وهي قول اللّه تعالى : وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا .
– أحسنت يا فاطمة ، بارك اللّه فيك ، فهل لك أن تفسري لنا هاتين الآيتين الكريمتين . .
هزت فاطمة رأسها بالإيجاب ومضت تقول :
لقد وردت هاتان الآيتان في سورة الإسراء حيث أمر سبحانه وتعالى بالإنفاق على ذي القربى والمساكين وابن السبيل ، وهذا حق فرضه اللّه تعالى وليس تفضلا من أحد على أحد ، كما ينهى في هذه الآية عن التبذير وهو الإنفاق في غير حق ، ووصف المبذرين بأنهم إخوان الشياطين ؛ وذلك لأنهم ينفقون في الباطل وينفقون في الشر وينفقون في المعصية ، لا ينالون خيرا بهذا الإنفاق ، فهم رفقاء الشياطين وصحبهم . . ثم يوضح اللّه سبحانه وتعالى حال الشيطان فيصفه بأنه كان لربه كفورا أي : كافرا بالنعمة ، فهم مثله لا يؤدون حق النعمة التي أنعمها اللّه بها عليهم ، وحقها أن ينفقوها فيما شرعه اللّه من الطاعات والحقوق غير متجاوزين ولا مبذرين .
كان الأب يسمع لفتاته في إعجاب ظاهر بما سمعه منها فأثنى عليها حين انتهت من حديثها وسألها بانشراح كيف استطعت تفسير هذه الآيات يا فاطمة ؟
ردت فاطمة وهي سعيدة لسعادة والدها قائلة :
لقد درسنا هذا في المدرسة حين حفظنا سورة الإسراء وكذلك تفسير آياتها ، وقد وعيتها جيدا ، وقد اشتملت على العديد من صفات عباد الرحمن ، وحرصت أن أظل محافظة على ما وعيته منها وبقيت أتعهدها دائما بالقراءة .
أحسنت يا ابنتي ، فعلينا أن نتعهد ما حفظناه من القرآن بالمداومة عليه حتى لا يتفلت منا تفلت الإبل من عقالها ، كما ذكر رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ، ولعلي أوضح لكم شيئا قبل أن نختم حديثنا حول الإسراف .
سأل عبد الرحمن : وما هو يا أبي ؟
أجاب الأب قائلا :
إن النهي عن الإسراف لا يعني الشح والتقّتير ، فالإمساك حيث يجب البذل بخل ، والبذل حيث يجب الإمساك تبذير ، وبينهما وسط وهو المحمود ، وقد قال تعالى : وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا فللمنفق حالتان :
تبذير واقتصاد ، والمحمود هو الاقتصاد .
كانت الأم تستمع بكل اهتمام للحديث الدائر بين زوجها وأبنائها وقد امتلأت نفسها حبورا وزهوا لما من اللّه به عليها من أسرة تسعى جاهدة لتلمس دروب الحق والانضمام تحت لواء عباد الرحمن ، فسألت زوجها وقد بدا التأثر ظاهرا في قسمات وجهها :
يا أبا عبد الرحمن ، هل يعد ما فعلته اليوم من التبذير الذي نهانا منه اللّه عز وجل ؟
– نعم يا أم عبد الرحمن ، وإني لأرجو أن تكوني قد خرجت من حديثنا هذه الليلة بعظة وعبرة وفائدة تعود عليك بالخير في الدين والدنيا .
– أجل يا أبا عبد الرحمن ، لقد وعيت ذلك جيدا ، فبارك اللّه فيك وغفر لي ولن تجدني بعد اليوم – إن شاء اللّه – مقصرة أو مبذرة .
اعتاد جابر أن يسأل والده عن كل صغيرة وكبيرة تعرض له في شؤون حياته الدينية والدنيوية ، فكان لا يترك شيئا إلا يحاول فهمه في أمور دينه ودنياه ، فهو يسأل ويسأل حتى يصل إلى نور المعرفة ويحتضن ضياء الحقيقة فينير قلبه الغض الصغير بكل المعاني السامية النبيلة ، شب جابر على هذا النهج الذي أعانه عليه والده كثيرا ؛ إذ لم يكن الأب ليضيق ذرعا بالأسئلة التي يلقيها ابنه عليه مهما كثرت وتنوعت هذه الأسئلة ، ومهما تشعبت دروب معرفته لئلا يتركه نهبا للقلق والحيرة ولئلا يزيغ عن الطريق ويضل في متاهات الأسئلة فتزل قدم بعد ثبوتها ؛ لذا فقد كان يعطي من وقته الكثير لفلذة كبده الذي رعاه منذ الصغر خير رعاية ، وحاول تنشئته تنشئة سليمة قوية تشرب فيها حب اللّه وحب رسوله ، فكان هذا الحب محور حياته ومنبع سلوكه وتعامله مع نفسه ومع الآخرين .
جاء جابر يوما إلى والده محاولا فهم آية قرأها في كتاب اللّه ، فهم معناها ولكنه لم يصل إلى مغزاها ولم يدرك الحكمة من وراء النهي الذي اشتملت عليه الآية الكريمة ، وبعد أن ألقى تحية الإسلام على والده ورد والده التحية بأحسن منها بادر جابر أباه قائلا :
– لقد كنت أتلو الحزب الذي قررته لنفسي كل يوم من كتاب الله فاستوقفتني آية في سورة النور أود أن أسألك عنها يا أبي .
– فما هي هذه الآية يا بني ؟
– إنها الآية التي نهى اللّه فيها عباده المؤمنين عن دخول بيوت الغير حتى يسلّموا .
– ألا تحفظ الآية يا بني ؟
– لا يا والدي ، لم أحفظها بعد .
فرد الأب قائلا : تقول الآية الكريمة يا بني : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ .
– نعم يا والدي ، هذه هي الآية التي ذكرت .
– اعلم يا بني أن سورة النور قد اشتملت على الكثير من الآداب والأخلاق النفسية والعائلية والجماعية ، إنها آداب تنير القلب وتنير الحياة ويربطها بذلك النور الكوني الشامل ، إنها نور في الأرواح وإشراق في القلوب وشفافية في الضمائر .
– ولماذا سميت سورة النور بهذا الاسم ؟
– لقد ذكر في هذه السورة النور بلفظه متصلا بذات اللّه في قوله سبحانه وتعالى : اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ .
كما ذكر في السورة النور بآثاره ومظاهره في القلوب والأرواح ممثلة هذه الآثار في الآداب والأخلاق التي يقوم عليها بناء هذه السورة .
– نعم يا والدي ، إني لأذكر بعض الآداب التي وردت في السورة وإن كنت لا أحفظ هذه الآيات ولكنني خرجت منها بفائدة عظيمة وهي أن القرآن الكريم يهتم بأخلاق الناس وآدابهم وسلوكياتهم .
– أحسنت يا بني ، ولعلك لو تذكرت كيف بدأت السورة بقول اللّه تعالى : سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ .
– ما العلاقة إذًا يا والدي بين صيغة البدء الذي افتتحت به السورة وما اشتملت عليه من آداب ؟
– أجاب الأب قائلا وقد سر لفهم ولده وسعة مداركه .
– إن السورة يا بني تبدأ بإعلان قوي حاسم بفرض هذه السورة بكل ما فيها من آداب وحدود وتكاليف وأخلاق ، فيدل هذا البدء الفريد على مدى اهتمام القرآن بالعنصر الأخلاقي في الحياة ، ومدى عمق هذا العنصر وأصالته في العقيدة الإسلامية وفي فكرة الإسلام عن الحياة الإنسانية .
– ما أجمل هذا القول ! ! ولكن أيعني هذا أن سورة النور فرضت علينا بأكملها ؟
– يا بني ، إن المطلع الذي افتتحت به السورة مطلع فريد في القرآن كله ، الجديد فيه كلمة فرضناها والمقصود بها توكيد الأخذ بكل ما في السورة على درجة سواء . . ففرضية الآداب والأخلاق فيها كفرضية الحدود والعقوبات . . هذه الآداب والأخلاق المركوزة في الفطرة الإنسانية . . والتي ينساها الإنسان تحت تأثير المغريات والانحرافات فتذكرهم بها تلك الآيات البينات وتردهم إلى منطق الفطرة الواضح المبين .
– لَكَم أودُّ يا والدي لو تشرح لي السورة بأكملها لأفوز بما زخرت به من آداب وأخلاق وأعلم ما نصت عليه من حدود وتشريعات .
– حبا وكرامة يا بني ، ولكن الوقت قّد لا يسعفنا الآن فيما نبغي فدعنا نكتفي هذه الليلة بالآية التي شغلت خاطرك وأثارت استفهامك ثم نعرج في ليلة أخرى على بقية السورة ، والآن افتح كتاب اللّه واقرأ الآية .
قرأ جابر الآية ، بعد أن استعاذ باللّه من الشيطان الرجيم ، فأحسن قراءتها وترتيلها ، ثم وضع القرآن في مكان يليق بقدسية كتاب اللّه .
وشرع الأب في تفسير الآية لابنه وشرح الحكمة من تنزيلها بادئا بالقول :
– يا بني ، إن الإسلام لا يعتمد أول ما يعتمد على العقوبة في إنشاء مجتمعه النظيف بل يسبقها بوسيلة أنجع منها .
– وما تلك الوسيلة يا أبي ؟
– إن هذه الوسيلة الناجعة هي الوقاية ، فالإسلام لا يحارب الدوافع الفطرية ولا يكبتها ، ولكن ينظمها ويضمن لها الجو النظيف الخالي من المثيرات المصطنعة .
– وكيف يكون ذلك ؟
– إنه يا بنى يجعل للبيوت حرمة لا يجوز المساس بها ، فلا يفاجأ الناس في بيوتهم بدخول الغرباء عليهم إلا بعد استئذانهم وسماحهم بالدخول ؛ وذلك خشية أن تطَّلع الأعين على خفايا البيوت وعلى عورات أهلها وهم غافلون ، فهذه بعض الضمانات الواقية التي يأخذ بها الإسلام .
– ولماذا خص البيوت بالذكر في الآية الكريمة ؟
– لقد جعل اللّه البيوت سكنا يفيء إليها الناس فتسكن أرواحهم وتطمئن نفوسهم ، فيأمنون فيها على عوراتهم وحرماتهم ، ويلقون أعباء الحذر والحرص ، ولا تكون البيوت كذلك إلا حين تكون حرما آمنا لا يستبيحه أحد إلا بعلم أهله وإذنهم ، وفي الوقت الذي يريدون وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا عليها الناس .
– وهل كان الاستئذان يا أبي من آداب العرب في الجاهلية ؟
– لا يا بني ، لم يكن الاستئذان من آداب العرب في الجاهلية ، لقد كان الزائر منهم يدخل البيت ثم يقول : لقد دخلت ، وكان يحدث ألا يرضى أهل الدار عن حالهم التي رآهم عليها هذا الزائر ؛ من أجل هذا أدب اللّه المسلمين بهذا الأدب العالي ، أدبُ الاستئذان على البيوت والسلام على أهلها ؛ لإيناسهم وإزالة الوحشة من نفوسهم قبل الدخول .
سأل جابر والده وهو متلهف لسماع المزيد من الشرح حول هذه الآية :
– ألهذا ذكر اللّه كلمة تستأنسوا قبل كلمة وتسلّموا ؟
– نعم يا بني ، إن الإيناس في هذه الآية يوحي بلطف الاستئذان ولطف الطريقة التي يجيء بها الطارق ، فتحدث في نفوس أهل البيت أنسا به واستعدادا لاستقباله ، وهي لفتة دقيقة لطيفة لرعاية أحوال النفوس ولتقدير ظروف الناس في بيوتهم وما يلابسها من ضرورات ، لا يجوز أن يشقى بها أهلها ويحرجوا أمام الطارقين في ليل أو نهار .
– إذا يدخل المرء يا أبي إن أذن له أهل المنزل ؟
سر الأب لسؤال ابنه لأنه سأل عن شيء كان لا بد من توضيحه فأجابه قائلا :
قد يستأذن المرء ولا يكون في البيوت أحد من أهلها ، وهنا لا يجوز اقتحام هذه البيوت بعد الاستئذان ، وهذا مأخوذ يا بني من قول اللّه تعالى بعد الآية السابقة : فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فإن كان فيها أحد من أهلها فإن مجرد الاستئذان لا يبيح الدخول إنما هو طلب للإذن ، فإن لم يأذن أهل البيت فلا دخول كذلك . . ويجب الانصراف دون تلكؤ أو انتظار ؛ ائتمارا بأمر اللّه إذ يقول جل وعلا : وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ
سأل جابر بشيء من الدهشة قائلا :
– ألا يحس المرء بالحرج يا والدي إن لم يؤذن له بالدخول ؟
رد الأب وقد استحسن سؤال ابنه قائلا :
– ولماذا الحرج يا بني ! فالامتثال لأمر اللّه فوق كل أمر ، ثم إن اللّه تعالى يقول : هُوَ أَزْكَى لَكُمْ إذا فارجعوا دون أن تجدوا في أنفسكم غضاضة ودون أن تستشعروا من أهل البيت الإساءة إليكم أو النفرة منكم ، فللناس أسرارهم وأعذارهم ، ويجب أن يترك لهم وحدهم تقدير ظروفهم وملابساتهم في كل حين ، ثم أجبني يا بني أليس لنا في رسول اللّه قدوة حسنة ؟ !
– بلى يا أبي ، وليتك تحدثني في هذا الأمر ما روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
أجاب الأب :
عن قيس بن سعد بن عبادة قال : زارنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في منزلنا فقال : السلام عليكم ورحمة اللّه ، فرد سعد ردا خفيا ، قال قيس : فقلت ألا تأذن لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : دعه حتى يكثر علينا من السلام ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : السلام عليكم ورحمة اللّه ، فرد سعد ردا خفيا ، ثم قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : السلام عليكم ورحمة اللّه ، ثم رجع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وتبعه سعد فقال : يا رسول اللّه إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك ردا خفيا لتكثر علينا من السلام ، فقال : فانصرف معه رسول اللّه وأمر له سعد بغسل فاغتسل ، ثم ناوله خميصة مصبوغة بزعفران أو ورس فاشتمل بها ثم رفع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يديه وهو يقول : اللهم اجعل صلاتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة .
– اللّه يا للروعة . . هكذا رد جابر وهو يستشعر عظمة خلق النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، ثم تابع قائلا : وكيف يكون الاستئذان يا والدي ؟
– سأرد على سؤالك هذا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهو معلمنا وهادينا : فقد أتى رجل من بني عامر فاستأذن على الرسول وهو في بيته فقال : أألج ؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لخادمه : اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان ، فقل له : السلام عليكم . . أأدخل ؟ فسمعها الرجل فقال : السلام عليكم . . أأدخل ؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل .
فانظر يا بني إلى هذا الحد من اللطف والدقة ، بلغ حس رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وصحابته بما علمهم اللّه من ذلك الأدب الرفيع الوضيء المشرق بنور اللّه .
– ولكننا لا نرى اليوم يا أبي من يستأذن فلا يؤذن له منعا للحرج أو خجلا من هذا الطارق .
– نعم يا بني ، فنحن اليوم مسلمون ، ولكن حساسيتنا بمثل هذه الدقائق قد تبلدت وغلظت ، وإن الرجل ليهجم على أخيه في بيته في أي لحظة من لحظات الليل والنهار يطرقه ويطرقه ولا ينصرف أبدا حتى يزعج أهل البيت فيفتحوا له ، وقد يجيء هذا الطارق في موعد الطعام فإن لم يقدم له الطعام وجد في نفسه من ذلك شيئا . . وربما يطرقهم في الليل المتأخر ، فإن لم يدعوه إلى المبيت عندهم وجد أيضا في نفسه من ذلك شيئا دون أن يقدر أعذارهم من هذا وذاك .
– ولكن يوجد اليوم يا أبي ما يسمى بالهاتف فلم لا يكون وسيلة استئذان بين الناس ؟
– نعم يا بني ، قد يكون في البيت هاتف يمكن أن يستأذن الزائر عن طريقه قبل أن يجيء ليؤذن له أو يعلم أن الموعد لا يناسب أهل البيت ، ولكنه يهمل هذا الطريق ليباغتهم في غير أوان وعلى غير موعد ، ثم لا يقبل العرف والعادات أن يرد عن البيت وقد جاء مهما كره أهل البيت تلك المفاجأة بلا إخطار .
– ولماذا يا أبي لا نحاول أن نتمسك بما أمرنا به اللّه تعالى في كل أمر من أمور حياتنا ؟
– أحسنت يا بني . . إننا لا نتأدب بأدب الإسلام في كل شيء ولا نجعل هوانا تبعا لما جاء به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دائما ، إنما نحن نتبع في بعض الأحوال عرفا خاطئا أو عادة ذميمة ما أنزل اللّه بها من سلطان ، ومما يؤسف له يا بني أن غيرنا ممن لم يعتنقوا الإسلام يحافظون على تقاليد في بعض سلوكهم تشبه ما جاء به ديننا ليكون أدبا لنا في النفس وتقليدا من تقاليدنا في السلوك ، فيعجبنا ما نراهم عليه أحيانا ولا نحاول أن نعرف ديننا الأصيل فنفيء إليه مطمئنين . .
فهل فهمت الآن يا بني الحكمة في النهي الذي اشتملت عليه الآية التي جئت تسألني عنها ؟ .
أجاب جابر في امتنان وقد سر للفوائد التي جناها قائلا :
– شكرا يا أبي لقد أثريتني هذه الليلة بالعظيم من الفوائد وإني إن شاء اللّه عاقد العزم على أن أبثها بين أصدقائي ما استطعت إلى ذلك سبيلا .
– بارك اللّه فيك يا بني وأعانك على الخير دائما .
– أستأذنك الآن يا والدي فقد حان موعد النوم .
– اذهب يا بني على بركة اللّه ، واحرص على الأذكار التي تقولها قبل النوم .
ومضى جابر إلى حجرته بعد أن ألقى السلام على والده .
عاد معاذ من المدرسة على غير عادته مكفهر الوجه ، مقطب الجبين ، وقد فارقته بشاشته وابتسامته المعهودة التي كانت تلازمه حين كان يدخل المنزل ، فهو اليوم منقبض الصدر ، بادي الحزن ، يمشي نحو حجرته بخطى مثقلة ، لا يسأل والدته عما أعدته . من غداء كما هي عادته كل يوم عند عودته من المدرسة ، حيث كان يسارع أول ما يسارع باتجاه المطبخ قبل أن يبدل ثيابه يتلذذ برائحة الطعام ، ويدفعه الجوع إلى السؤال عن الأطباق التي أعدت للغداء .
رأت والدة معاذ كل هذا منه فأنكرته في نفسها ، ولكنها لم تشأ أن تزيد ابنها ضيقا على ضيق بسؤاله عما به وتركته يمضي إلى حال سبيله ، وعزمت على ألا تسأله عن سر تغيره حتى ينهي غداءه .
عاد والد معاذ من العمل واجتمع أفراد الأسرة على مائدة الغداء ، فلاحظ الأب على ابنه ما لاحظته والدته من قبل ولكنه لم يفعل كما فعلت بترك سؤاله بل سأل ابنه بحنان أبوي وشفقة ظاهرة قائلا :
ما بك يا بني ؟ أنت اليوم على غير عادتك من المرح والبشر .
رد معاذ قائلا ، وهو يأمل في قرارة نفسه أن يصدقه والده :
– لا شيء يا والدي ، كل ما في الأمر أنني جائع فقط .
أجاب الأب بدهشة غير مقتنع بما ذكره ابنه :
– جائع يا بني ؟ ! وهل الجائع يأكل لقمة ويفكر مليا ثم يتناول اللقمة الأخرى يعقبها بالتفكير ثانية ؟ !
إن الجائع يا بني حين يرى الطعام يهش ويبش لرؤيته إذا كان ما به هو الجوع فقط .
وأصر معاذ على ما ذكره قائلا :
– بل هو الجوع يا والدي ، ولعلك تراني في المساء أفضل حالا من الآن .
وهنا تدخلت الأم في الحديث موجهة كلماتها لزوجها قائلة :
– دعه يا أبا معاذ ، فلا شك أن ابنك لن يجد صديقا أفضل منك يحدثه ويستشيره إن ألم به أمر أو اعترضت طريقه مشكلة ما ، والتفتت إلى ابنها معاذ متسائلة بكل شفقة ومؤكدة قولها :
– أليس كذلك يا بني ؟
سر معاذ لتدخل والدته على هذا النحو ورد قائلا :
– نعم نعم ، بلا شك يا أماه ، فلقد تعودت أن أرمي بثقل همومي بين يدي والدي أبحث عنده عن النصح والمشورة ، وكنت أجد منه خير معين ومعلم وموجه لي في هذه الحياة .
– بارك اللّه فيك يا بني لقد أرحتني بهذا القول . . هكذا رد والد معاذ وهو يعلم حق العلم أن ابنه يواجه مشكلة ما تعكر عليه صفوه وتشغل خاطره البريء ، ولكنه صمت نزولا عند رغبة ابنه في عدم البوح بما ألم به ، ذلك أنه لم يراوده القلق على ابنه فهو كما قالت زوجته خير صديق لابنه وخير أخ بلا شك ، إن ابنه لن يخفي عنه شيئا من معاناته ، ولعله الآن لثقل ما ينوء به قلبه لا يود البوح فليصبر عليه قليلا وسيجيء بنفسه طالبا المشورة والعون والتوجيه ، ولن يبخل عليه بشيء كما عوده .
وفي المساء جلس الأب إلى أفراد أسرته وراحوا يتجاذبون أطراف الحديث في أمور شتى ، وفجأة وجه معاذ حديثه إلى والده قائلا :
يا أبي ، لقد أخطأت اليوم في الإجابة على سؤال وجهه لي معلمي . .
وصمت معاذ بعد أن ألقى كلماته هذه ، فاستحثه والده على المضي في الحديث قائلا : حسنا يا بني وماذا بعد ؟
رد معاذ وقد اكتسى وجهه بالحزن :
لا شيء يا أبي ، فقط أخطأت في الإجابة ، وهذا كل ما في الأمر .
– وهل عرفت بعد ذلك ما خطؤك يا بني ؟
– نعم يا أبي ، لقد قام المعلم بتصحيح الخطأ الذي وقعت فيه وفهمت جيدا ما ذكره لي .
– الحمد للّه يا بني فهذا شيء يبعث على الارتياح فليس عيبا أن تخطيء في تلقي العلم ، بل العيب كل العيب أن تسكت على هذا الخطأ أو أن تخجل منه وألا تحاول معرفة الحقيقة ، فالتماس الحقيقة والبحث عن المعرفة هي مسئولية كل مسلم واع يعرف لماذا وكيف يتعلم . .
فلماذا أراك منزعجا مما حدث طالما أن الأمر مضى على خير حال ؟
– ومن قال يا أبي إن الأمر مضى على خير حال ، ثم إني غير منزعج من خطئي بل . .
وتوقف معاذ عن الحديث وقد تهدج صوته . .
سأله والده وقد بدا منزعجا :
– ما بك يا بني . .
قل ما الأمر . . لعلي أساعدك وأعالج معك الأمر إن كان هناك مشكلة ما .
أجاب معاذ وقد استعاد شيئا من هدوئه :
– حين خرجنا من المدرسة في نهاية اليوم أخذ أحد أصدقائي يتندر بخطئي بصوت عال ويهزأ بي ويتفوه بألفاظ تدل على السخرية مني مما أثار ضحك بعض الأصدقاء .
فسأله والده وقد أحس بثقل ما يحمله ابنه :
– وماذا فعلت أنْت يا بني حين رأيت ذلك منه ؟
– لم أفعل شيئا يا أبي بل مضيت في طريقي إلى حال سبيلي .
– أحسنت يا معاذ ، فهذا ما كنت أتوقعه منك ، فأنا أعلم أنك لا تأبه بمثل هذه الحماقات الصغيرة لأنك أكبر منها .
رد معاذ وقد خالط صوته بعض الغضب :
– لا يا أبي ، لن أتركه بعد أن وجه لي هذه الإهانة ، بل سأتحين الفرصة وأنتظر حتى يقع في الخطأ وأرد عليه بالمثل وأسخر منه كما سخر مني ، وبذلك أكون قد انتقمت منه لنفسي .
وهنا بادرت الأم قائلة وقد آلمها أشد الألم ذلك الشعور البغيض الذي راود ابنها :
– لا يا بني ، إن الانتقام فعل قبيح وتصرف مشين ، وهو شأن الضعفاء المتخاذلين لا شأن الأقوياء القادرين . أجاب الأب قائلا وقد شاطَرَ الأم شعورها بالألم تجاه ابنهما لما تركته الحادثة في نفسه من شعور :
– نعم يا بني ، ما تقوله والدتك حق ، ما هكذا شأن المؤمنين الأقوياء في تعاملهم ، فعباد اللّه هم عباد مطمئنون لا تجيش صدورهم بغير المشاعر النبيلة ، ولا تخفق قلوبهم بغير الحب والمودة ، ولا يشحنون صدورهم بمشاعر الغل والحقد ، يبيتون وصدورهم نظيفة نقية طاهرة ، يردون على السيئة بالحسنة بكل قوة وشموخ طمعا في المثوبة ، فانظر إلى قول اللّه تعالى في محكم تنزيله : وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ .
وحين استمع معاذ إلى قول والده وما جاءت به الآية الكريمة سكن عنه الغضب وأحس بشيء من السكينة يغلف روحه ويسري بين جوانحه بكل عذوبة على الرغم من أنه لم يفقه معنى قول اللّه تعالى : وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ فبادر قائلا :
– إني أحس يا أبي بالأمن لسماع هذه الكلمات وأشعر بالطمأنينة تنساب في فؤادي لما تحمله هذه الآية الكريمة ، ولكن هل لك يا أبي أن توضح لي معنى ويدرؤون بالحسنة السيئة ؟
رد الأب قائلا :
قبل أن أجيبك يا معاذ على سؤالك دعني أسألك هل تعلم من هم هؤلاء الذين تحدثت عنهم الآية الكريمة ؟
رد معاذ : لا يا أبي فمن هم هؤلاء ؟
– إنهم يا بني أولو الألباب ، فقد ذكر اللّه تعالى قبل الآية السابقة ثلاث آيات تصفهم وتصف الخلق الذي هم عليه ، وسأقرأ عليك الآيات الثلاث : أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ أما معنى يدرؤون بالحسنة السيئة أي : يقابلون السيئة بالحسنة في التعاملات اليومية . . فمقابلة السيئة بالحسنة تكسر شر النفوس وتقضي على الضغينة وتوجه هذه النفوس إلى الخير وتطفئ جذوة الشر وترد نزغ الشيطان ، ومن ثم تدرأ السيئة أي : تدفعها في النهاية . فهل فهمت معنى ما سألت عنه ؟
– نعم يا أبي .
وهنا تابعت الأم حديث زوجها قائلة :
– نعم يا أبا معاذ ، ولكنني أود أن أشير إلى شيء مهم وهو أن مقابلة السيئة بالحسنة عندما يكون في درء السيئة دفعها ، فأما حين تحتاج السيئة إلى قمع أو تهذيب وتأديب ويحتاج الشر إلى الدفع فلا مكان لمقابلته بالحسنة لئلا يتجرأ صاحب الشر ويستعلي .
وسأل معاذ والديه قائلا :
وهل في درء سيئة صديقي بالحسنة ما يهذب نفسه ويطفئ الشر في داخله ؟
– نعم يا بني ، فدرء السيئة بالحسنة غالبا يكون في المعاملة الشخصية بين المتماثلين ، فأما في دين اللّه فلا وألف لا . . إن المستعلي الغاشم لا يجدي معه إلا الدفع الصارم ، والمفسدون في الأرض لا يجدي معهم إلا الأخذ الحاسم ، وفهم التوجيهات القرآنية متوقّف على تدبر المواقف واستشارة الألباب والتصرف بما يرجح أنه الخير والصواب .
وتابعت الأم قول زوجها :
نعم يا بني ، إن الحسنة لا يستوي أثرها كما لا تستوي قيمتها مع السيئة . . وإن الصبر والتسامح والاستعلاء على رغبة النفس في مقابلة الشر بالشر يرد النفوس الجامحة إلى الهدوء والثقة فتنقلب من الخصومة إلى الولاء ومن الجماح إلى اللين مصداقا لقول اللّه جل وعلا : وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ . فهنا يا بني ينقلب الهياج إلى وداعة والغضب إلى سكينة .
رد معاذ :
نعم يا أمي ، ولكن قد لا يستطيع المرء أحيانا أن يقابل السيئة بالحسنة لعدم قدرته على كبح جماح نفسه وسيطرة الغضب عليه .
أجاب الأب مؤكدا صحة قول ابنه :
أنا لا أنكر ذلك يا معاذ ، ولكن هذه الدرجة من السماحة تحتاج إلى قلب كبير يعطف ويسامح ، وإلى التوازن الذي يُعرف به متى تكون السماحة ومتى يكون الدفع بالحسنة ، كل هذا درجة عظيمة لا يلَقَّاها كل إنسان فهي في حاجة إلى الصبر ، وهي كذلك حظ موهوب يتفضل اللّه به على عباده الذين ينسون حيث يقول تعالى : وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
– إذا علي أن أقابل السيئة بالحسنة حتى أكون من هؤلاء الذين أشارت إليهم الآية الكريمة .
– ليس دائما يا بني تقابل السيئة بالحسنة ، فالسماحة قاصرة فقط على حالات الإساءة الشخصية لا العدوان على العقيدة كما ذكرت أنفا وفتنة المؤمنين عنها ، فالمطلوب هنا الدفع والمقاومة بكل صورة من صورها .
أجاب معاذ :
سأحاول يا أبي أن أكون كما ذكرت .
ردت أم معاذ :
دائما تذكر يا بني أن لنا في رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة فقد قال أنس – رضي اللّه عنه – : كنت أمشي مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية ، فأدركه أعرابي فجبذ بردته جبذة شديدة ، فنظرت إلى عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته ، ثم قال : يا محمد ، مر لي من مال اللّه الذي عندك ، فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء .
أجاب معاذ حين سمع قول والدته :
يا لسمو هذا الخلق ! أيسيء الأعرابي إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ويحسن إليه الرسول ! !
أعقب والد معاذ قائلا :
– نعم يا بني ، فمن حسن خلقه أنه عفا عمن أساء إليه وزاد على العفو بالبشر والإحسان الذي بادر به الأعرابي .
أعقب معاذ :
– سيكون لي في رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة .
بارك اللّه فيك يا بني ، ودائما استعذ باللّه من الشيطان الرجيم حتى لا يستولي عليك الغضب الذي قد يلقي في روعك قلة الصبر على الإساءة أو ضيق الصدر عن السماحة ، فالاستعاذة باللّه من الشيطان الرجيم حينئذ وقاية تدفع محاولاته لاستغلال الغضب والنفاذ من ثغرته وتذكر دائما قول اللّه تعالى : وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .
– ولكن دعنا يا أبا معاذ نتحدث عن ثواب من يدرأ السيئة بالحسنة .
أجاب أبو معاذ قائلا :
إن هذا الثواب ذكر في ختام الآية الكريمة التي افتتحنا بها حديثنا ألا وهو قول اللّه تعالى : أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ فبعد أن ذكر اللّه سبحانه وتعالى في الآيات السابقة صفات أولي الألباب أوضح بعدها جزاء هؤلاء ألا وهو عقبى الدار الذي أوضحته الآية التي جاءت بعدها حين قال تعالى : جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ .
ردت أم معاذ وقد استحسنت قول زوجها :
نعم يا بني ، جنات عدن للإقامة والقرار ، وفي هذه الجنات يأتلف شملهم مع الصالحين من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ، وهؤلاء يدخلون بصلاحهم واستحقاقهم ولكنهم يكرمون بتجمع شتاتهم وتلاقي أحبابهم ، وهي لذة أخرى تضاعف لذة الشعور بالجنان .
وهنا تابع الأب شرح الآية قائلا :
وفي هذا التجمع والتلاقي يشترك الملائكة في التأهيل والتكريم في حركة رائحة غادية حيث يقول سبحانه وتعالى : سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ فهل أدركت يا بني عظم ثواب هؤلاء الذين يدرؤون بالحسنة السيئة ؟
– نعم يا أبي ، كم هو ثواب عظيم وأجر كبير ذلك الذي يناله من يستطيع الصبر على دفع السيئة بالحسنة .
– أحسنت يا معاذ ، فماذا أنت فاعل غدا ؟
سأحاول أن أحسن إلى هذا الصديق الذي سخر مني ، وسأكون معه أحسن مما كنت سابقا ولن أشعره بأن إساءته قد آلمتني ولن أذكر له عنها شيئا . .
فشكرا لكما يا والدي على هذا الحديث القيم الذي خرجت منه بالكثير من الفوائد ، وخرجت منه بسلامة الصدر ونقاء الروح بعد أن كنت مليئا بالغضب . وأستأذنكما الآن لقضاء بعض شؤوني الدراسية .
رد الأب قائلا وقد سعد كما سعدت والدة معاذ بما تحقق لولدهما من سلامة الصدر من الغل والحقد : اذهب يا بني رافقتك عناية الله .