بسم ط§ظ„ظ„ظ‡ ط§ظ„ط±طظ…ط§ظ† الرحيم
زواج ط§ظ„ظ…ط³ظ„ظ…ط© ط¨ط؛ظٹط± المسلم
آمال قرامي
آمال قرامي
ملاحظة:(أنجزنا هذا البحث سنة 1995 ، وعندما أردنا نشر قسم منه ’منع’ مقالنا و لم نفكّر، منذ ذلك التاريخ، في تقديمه للقرّاء إلى أن ألحّ ط¹ظ„ظٹظ†ط§ عدد من أصدقائنا بضرورة تمكين متابعي ط§ظ„طµطط§ظپط© ط§ظ„ط¥ظ„ظƒطھط±ظˆظ†ظٹط© من الاطلاع ط¹ظ„ظٹظ‡ فاستجبنا لمطلبهم، وها نحن نعرضه على القرّاء.) *
تشهد المجتمعات الإسلامية المعاصرة صراعا حادّا بين أنصار الحداثة الذين يكرّسون جهودهم لتجديد بنى المجتمع، وقراءة تراثه قراءة تراعي المستجدات، وتؤمن بضرورة إقرار الحريّات الأساسية وإرساء حقوق الإنسان، ودعاة العودة إلى "الإسلام الحق" الذين يلحون على أنّ اختيارهم هو السبيل الوحيد لإنقاذ الأمّة وتحقيق الرقي، وذلك لأنّهم وحدهم العليمون بكنه النص. فلا غرو إذن أن يكثر الجدل ويشتد النزاع حول جملة من القضايا المطروحة ط§ظ„ظٹظˆظ… على الفكر الإسلامي والتي باتت تتطلّب حلولا جذرية وحسما قاطعا. ولعلّ أهمّ هذه المسائل ما يترتب عن ثنائية الفقه الإسلامي والقوانين الوضعية. وقد اخترنا أن نتوقّف عند قضية ط²ظˆط§ط¬ ط§ظ„ظ…ط³ظ„ظ…ط© ط¨ط؛ظٹط± المسلم، التي أثارت ردود فعل متباينة ط®ط§طµط© بعد أن صادقت مثلا تونس في 4 ماي 1967 على اتفاقية نيويورك التي بمقتضاها تمنح ط§ظ„ظ…ط±ط£ط© حريّة التزوج بمن تختاره دون أي اعتبار للجنس والعنصر والدين . لقد انقسم المفكّرون المحدثون إلى فريقين: فئة تمسّكت بموقف الإباحة ونادت بضرورة تمكين ط§ظ„ظ…ط±ط£ط© من حقها في اختيار شريك حياتها دون وصاية مثلما هو ط§ظ„طط§ظ„ بالنسبة إلى ط§ظ„ط±ط¬ظ„ ودعت إلى القضاء على التناقض الذي توسم به جملة من النصوص التشريعية الحديثة. أمّا الفئة الثانية فقد أصرّت على تحريم هذا النوع من ط§ظ„ط²ظˆط§ط¬ محتجّة بنصوص ظ‚ط±ط¢ظ†ظٹط© وأحكام فقهيّة وفتاوي، مغلّبة الاعتبارات الاجتماعية على سواها. ولمّا كان أنصار الرفض المطلق لزواج ط§ظ„ظ…ط³ظ„ظ…ط© ط¨ط؛ظٹط± ط§ظ„ظ…ط³ظ„ظ… هم الذين يمثّلون أكبر نسبة فقد ارتأينا أن نقوم في ط§ظ„ظ‚ط³ظ… ط§ظ„ط£ظˆظ„ من هذا البحث بعملية استقراء للتراث التفسيري والفقهي علّنا نتوصّل إلى فهم الآفاق الفكرية والظروف التاريخية التي أفرزت ظهور مثل تلك الآراء ثمّ عمدنا في قسم ثان إلى استعراض ظ…ظˆط§ظ‚ظپ المحدثين من مسألة ط²ظˆط§ط¬ ط§ظ„ظ…ط³ظ„ظ…ط© ط¨ط؛ظٹط± ط§ظ„ظ…ط³ظ„ظ… موضّحين الخلفيات التي تكمن وراءها. أما ط§ظ„ظ‚ط³ظ… الثالث فقد خصصّناه لتحليل النتائج المترتبة عن ثنائية الفقة الإسلامي والقوانين الوضعية.
1
.,h[ hglsglm fydv hglsgl Hlh lhd l,hrt hglvHm hggi hgH,g hgphg hgd,l hgv[g hgvplhk hgwphtm hg.,h[ hgYg;jv,kdm hgrsl fu] jydv ohwm ],k skm ugn ugdi ugdkh rvNkdm ;hk
1 – مواقف المفسّرين والفقهاء من زواج المسلمة بغير المسلم
لا خفاء أنّ تلمّس أبعاد هذه المسألة يكون أوّلا بعرض ما احتوى عليه النصّ التأسيسي من آيات تتعلق بزواج المسلمة بغير المسلم. جاء في القرآن: "وَلاَ تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُوا المُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الجَنَّةِ وَالمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ" من الواضح أنّ الخطاب في هذه الآية متعلّق أساسا بالمشركين والنهي فيه يتوجه إلى الرجال والنساء على حدّ السواء، ولكن كيف كان فهم المفسّرين القدامى لهذه الآية ؟
كان اهتمام هؤلاء منصبا على القسم الأول من الآية، إذ أنّهم ذكروا سبب النزول وفصّلوا القول في مفهوم المشركات، فإذا هنّ حسب البعض المشركات من أهل مكّة، أي من أهل الحرب ، بينما ذهب آخرون إلى أنّ المشركات هنّ من العرب الذين ليس فيهم كتاب . ورأت فئة أخرى أنّ المشركين هم عبدة الأوثان، واعتبرت فئة أخرى أنّ المشرك هو الكافر سواء كان كتابيا، أو غيره . ولم يتوان الطبري عن الإشارة إلى اختلاف المفسّرين حول هذه الآية فقال:"اختلف أهل التأويل في هذه الآية هل نزلت مرادا بها كلّ مشركة أم مرادا بحكمها بعض المشركات دون بعض؟ وهل نسخ منها بعد وجوب الحكم بها شيء أم لا ؟ فقال بعضهم: نزلت مرادا بها تحريم نكاح كلّ مشركة على كلّ مسلم من أيّ أجناس الشرك كانت: عابدة وثن كانت، أو كانت يهوديّة أونصرانية أومجوسيّة أوغيرهم من أصناف الشرك ثم نسخ تحريم أهل الكتاب بقوله:"يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أحلَّ لَهُمْ قُلْ أحِلَّ لَكُمْ الطَيِّبَاتِ". " وفي مقابل ذلك لم يستوف أغلب القدماء القسم الثاني من الآية حقّه من التحليل والتفحّص. إذ ذهب الطبري مثلا إلى أنّ الله "يعني تعالى ذكره بذلك أنّ الله قد حرّم على المؤمنات أن ينكحنّ مشركا كائنا من كان المشرك، ومن أصناف الشرك كان فلا تنكحوهنّ أيّها المؤمنون منهم، فإنّ ذلك حرام عليكم، ولأنْ تزوجوهنّ من عبد مؤمن مصدّق بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله خير لكم من أن تزوجوهنّ من حرّ مشرك ولو شرف نسبه وكرم أصله وإن أعجبكم حسبه ونسبه" . وكما هو بيّن لم يستثن الطبري أهل الكتاب من هذا الحكم، بل اعتبرهم من المشركين الذين لا ينبغي إنكاحهم المؤمنات. وأكّد الرّازي الحكم نفسه بقوله:"وأمّا قوله تعالى "ولا تنكحوا ا لمشركين حتى يؤمنوا" فلا خلاف ههنا أنّ المراد به الكلّ وأنّ المؤمنة لا يحلّ تزويجها من الكافر البتة على اختلاف أنواع الكفرة". أمّا القرطبي فقد اقتصر على بيان إجماع الأمّة "على أنّ المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه". ووضّح في موضع آخر من تفسيره أنّ آية "ولا تمسكوا بعصم الكوافر" قد نسخت ما كان جاريا به العمل في مسألة النكاح، إذ "كان الكفّار يتزوجون المسلمات والمسلمون يتزوجون المشركات ثم نسخ ذلك في هذه الآية فطلّق عمر بن الخطاب حينئذ امرأتين له بمكّة مشركتين" . وأثبت ابن كثير على غرار سابقيه أنّ آية "ولا تنكحوا المشركات" تضمّنت حكما بتحريم تزويج "الرجال المشركين النساء المؤمنات كما قال تعالى "لا هنّ حل لهم ولا هم يحلّون لهن " إنّ ما يسترعي الانتباه في خطاب هؤلاء المفسرين إلحاحهم على أنّ آية "ولا تنكحوا المشركات" هي من آيات التحريم وهي بذلك نص قطعي الدلالة يستوجب العمل به كما أنّ أغلبهم قدّموا تفاسيرهم دون التوسّع في البحث عن أسباب النزول، أي الوضعيّة الاجتماعية التي اقتضت مراعاة بعض المصالح، والتي تجعل المنع مقبولا داخل تلك الوضعية. أضف إلى ذلك أنّ المفسّرين عرضوا آراءهم بكلّ سهولة وارتياح بصفتها التفاسير الحقيقية "لكلام الله" معتقدين أنّهم قادرون على تفسير هذه الآيات بشكل كامل ودقيق وصحيح بكلّ معانيه ومقاصده لذلك قالوا ببراءة "يقول الله". و هذه التفاسير تمثّل قراءة حرفية للآيات وهي تغلّب الاعتبارات الاجتماعية على سواها. كما أنّها مرتبطة بنوعيّة الثقافة وحاجات المجتمع، وبالمواقع العقائدية لكلّ مفسّر. ويقودنا الاطلاع على المدوّنة الفقهية إلى نفس النتائج، إذ نقل عن الإمام سعيد بن المسيّب قوله:"لا يجوز أن ينكح المشرك المؤمنة وإن كانت زانية" . وجاء في مدونة مالك "عن سفيان الثوري عن يزيد بن أبي زياد. قال سمعت زيد بن وهبه الجهنيّ يقول: كتب عمر بن الخطّاب يقول: إنّ المسلم ينكح النصرانية ولا ينكح النصرانيّ المسلمة قال: يزيد بن عياض: وبلغني عن عليّ بن أبي طالب أنّه قال: لا ينكح اليهودي المسلمة ولا النصراني المسلمة عن ربيعة أنّه قال: لا يجوز للنصراني أن ينكح الحرّة المسلمة" . ومعنى ذلك أنّه يجوز للنصراني أن يتزوج الأمة المسلمة وهو رأي ذهبت إليه الأخنسية والصفرية من الخوارج. أمّا ابن رشد فقد اكتفى بالقول "إن المقصود من الآية ….. تحريم نكاح المشركين والمشركات وهذا ظاهر والله أعلم". والجدير بالتسجيل أنّ الفقهاء آثروا التطرّق إلى مسألة زواج المسلمة بغير المسلم لا ابتداء، أي قبل إبرام العقد، وإنّما انتهاء فاهتمّوا بوضعية المرأة التي تسلم تحت الكافر والمرأة المسلمة التي يرتدّ زوجها وتوسّعوا في بيان كيفية التفريق بين الزوجين لاختلاف الدين. لئن حرص العلماء على إثبات أنّ حكم زواج المسلمة بغير المسلم هو "حكم الله الذي لا يحلّ لأحد أن يخرج عنه" ، فإنّ المطّلع على التراث التفسيري والفقهي لا يمكنه أن يغضّ الطرف عن اختلاف هؤلاء حول تحديد دقيق لمصطلح "الشرك" وحرص أغلبهم على اعتبار أهل الكتاب من المشركين، رغم وعي بعضهم بالفصل القائم في النص التأسيسي بين أهل الكتاب وبين المشركين واقتناع البعض الآخر بضرورة التفريق بين المشرك الحربي والمشرك غير الحربي . ولا يمكن للدارس إلاّ أن يتساءل عن أسباب تغييب رأي من اعتبر أنّ حكم حظر زواج المسلمة بغير المسلم، إنّما هو حكم متعلّق بمشركي مكّة الذين ناصبوا الدين الجديد العداء سياسيا واجتماعيا فانهالت عليهم التقريعات بشدّة متزايدة، حتّى وإن لم يتجرّأ صاحبه على القول إنّ الحكم لا يشمل أهل الكتاب الذين سكت عنهم النصّ التأسيسي. كما أنّ ما يلفت الانتباه في موقف العلماء اختلافهم حول مسألة نسخ بعض الآيات للبعض الآخر. جاء في "الاستبصار" في هذا الشأن "عن زراره بن أعين، عن أبي جعفر عليه السلام قال: لا ينبغي نكاح أهل الكتاب، قلت: جعلت فداك. وأين تحريمه ؟ قال: قوله تعالى (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) وعن زرارة بن أعين، قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قوله تعالى: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) قال: هي منسوخة بقوله: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) . ومهما يكن الأمر فإنّ الاستنتاج الذي نتوصل إليه بعد استعراض آراء القدامى هو اتفاق أغلبهم على رفض إنكاح المسلمة غير المسلم، وهو موقف يماثل ما كان معمولا به لدى اليهود والنصارى. ففي التوراة أنّ النبيّ إبراهيم نهى ابنه إسحاق عن التزوج بالكنعانيات لأنّهن وثنيات، وأمره أن يتزوّج من بنات عشيرته اللاّتي يتّبعن ملّته. وقد نهت التوراة بعد ذلك بني اسرائيل أن يتزوجوا من الشعوب الأخرى التي كانت تجاورهم. وقد تأكّد هذا التحريم في التلمود وفي التقنين اليهودي. وكذلك حرّمت الكنيسة الزواج المختلط منذ عهد الإمبراطور قسطنطين الأول ثم أجاز القانون المسيحي للنصراني أن يتزوج بغير نصرانية شريطة أن تنتقل إلى دينه. وإذا تبيّن لنا اتفاق العلماء على منع زواج المسلمة بغير المسلم فما هي مختلف الحجج التي ساقها هؤلاء لتبرير المنع؟
1-السير على نهج السلف لا خفاء أنّ حاجة الفقهاء إلى إضفاء الشرعية الدينيّة على الحلول التي اختاروها والأحكام التي استنبطوها في ظرف تاريخي له خصوصيته، هي التي دفعتهم إلى البحث عن أحاديث نبويّة تطرّقت إلى النكاح عقدا، أو ممارسة ليعزّزوا بها مواقفهم وإلى التنقيب في سيرة السلف عن مرتكزات يؤسسون عليها أحكامهم ومن ثمّة نرى أنّ هؤلاء قد حرصوا على ربط كل حكم بأمر مماثل في القرآن والسنة. ومن هذه الأحاديث ما انفرد الطبري بروايتها قال: "عن الحسن عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: نتزوّج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا وعلّق الطبري على هذا الحديث بقوله: "هذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه فالقول به لإجماع الجميع من الأمّة على صحّة القول به" . أمّا ابن حزم فقد كرّس جهده لجمع الأخبار التي تناقلها الرواة حول سيرة عمر بن الخطاب الذي اشتهر بموقفه المتشدد من زواج المسلمين بغيرهم من أهل الملل والنحل التي لا تدين بالإسلام، وإلحاحه على ضرورة التفريق بين الزوجين متى أسلمت المرأة تحت ’الكافر’، ووجوب فسخ نكاح المرأة التي ارتدّ زوجها. قال ابن حزم: "وعن عمر أيضا قول ثالث رويناه من طريق حمّاد بن سلمة عن داود الطائي، عن زياد بن عبد الرحمان أنّ حنظلة بن بشر زوّج ابنته وهي مسلمة، من ابن أخ له نصراني فركب عوف بن القعقاع إلى عمر بن الخطاب فأخبره بذلك فكتب عمر في ذلك: إن أسلم فهي امرأته وإن لم يسلم فرّق بينهما. فلم يسلم ففرّق بينهما. ومن طريق ابن أبي شيبة ثنا عباد بن العوّام عن أبي إسحاق الشيباني عن يزيد بن علقمة أنّ عبادة بن النعمان التغلبي كان ناكحا بامرأة من بني تميم فأسلمت فقال له عمر بن الخطّاب: إمّا أن تسلم وإمّا أن ننتزعها منك فأبى فنزعها عمر منه …. ومن طريق حمّاد بن زيد بن أيّوب السختياني عن عكرمة عن ابن عبّاس في اليهوديّة، أو النصرانية تسلم تحت اليهوديّ، أو النصرانيّ قال: ففرّق بينهما: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه وبه يفتي حمّاد بن زيد. ومن طريق عبد الرزاق عن أبي الزبير أنّه سمع جابر بن عبد الله يقول: نساء أهل الكتاب لنا حلّ ونساؤنا عليهم حرام".
لا مراء أنّ المدوّنين والعلماء أضفوا على هذه الروايات وغيرها مسحة من القداسة ورفعوها إلى مستوى الأحاديث المسندة. وممّا لا شك فيه أنّ حرص القدامى على المنافحة على الإسلام هو الذي جعلهم يعتبرون أنّ ما فعله الجيل الأوّل هو عين الحقّ وما على الخلف إلاّ الاهتداء بهديهم والسير على نهجهم والخضوع لأحكامهم. وهكذا ارتقت هذه الاجتهادات إلى مستوى المقدّس وصارت حجّة قاطعة ملزمة كيف لا وهي تجسّد القيم المشتركة وتشعر الفرد بانتمائه إلى أمّة تعتمد على مثال أعلى ومن ثمّة تنصهر الجماعة في بعضها البعض، ويلتحم بعضهم ببعض.
2- ما يجب أن تكون عليه العلاقة بين المسلم و"الكافر" كما هو معلوم نزل القرآن في احداثيات الزمان والمكان، وفي وسط سيطرت عليه الوثنية. وقد عبّرت عديد الآيات عن هذه الحقيقة وحثّت المؤمنين على جهاد المشركين والابتعاد عن أهل الزيغ والضلال. فلا غرو أن يعكس القدامى هذا الصراع في آثارهم وأن لا يألوا جهدا في تحذير المسلمين من موالاة الكفّار، خاصة وأنّ المسلمين "كانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أحسابهم". لقد ذهب الزمخشري إلى أنّ المشركين حقّهم أن لا يوالوا ولا يصاهروا ولا يكون بينهم وبين المؤمنين إلاّ المناصبة والقتال". واتفق الطبري مع من سبقه فرأى أنّ المشركين يدعون إلى "الكفر والمعاصي التي هي سبب دخول النار وهذا مثل التعليل لأنّ الغالب أنّ الزوج يدعو زوجته إلى دينه." وبما أنّ التناكح كان من أوكد أسباب الموالاة فقد حذّر القرطبي المسلمين من مغبّة الاختلاط "بالكفّار" وذلك لأنّ صحبة هؤلاء "توجب الانحطاط في كثير من هواهم مع تربيتهم النسل". ولم يتخلّف ابن كثير عن إثبات النتائج المنجرّة عن الاحتكاك بالمشركين، فرأى أنّ "معاشرتهم ومخالطتهم تبعث على حبّ الدنيا واقتنائها وإيثارها على الدار الآخرة وعاقبة ذلك وخيمة". وليس ثمّة شكّ في أنّ إيمان جماعة من المسلمين بضرورة قطع كلّ صلة تذكّرهم بماضيهم "المظلم"، واقتناعهم بوجوب الالتزام الشديد بأوامر الدين وبضرورة القضاء على الفئة المتشبّثة بموروثها القديم، والتي رفضت الانخراط العفوي في صفوف المؤمنين عندما كان هؤلاء لا يزالون في موقف الضعف، هو الذي دفعهم إلى اختيار الانفصال عن المشركين والاحتراس من معاشرة "الكفّار". ولا يخفى أنّ تخوّف العلماء من ابتعاد المسلمين عن القيم التي أرساها الدين الجديد بسبب احتكاكهم بالأجناس المختلفة، جعلهم يحرصون على سدّ باب الذرائع بالتأكيد أكثر من مرّة على وجوب قطع ولاية الكافرين على المؤمنين. وقد عبّر الشافعي عن ذلك بقوله:"فالمسلمات محرّمات على المشركين منهم بالقرآن على كلّ حال وعلى مشركي أهل الكتاب لقطع الولاية بين المشركين والمسلمين، والجدير بالذكر أنّ أغلب العلماء استندوا إلى آية "يَا أَيُّها الذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تُرْجِعُوهنَّ إِلَى الكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَاتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا أَتَيْتُموهُنَّ أُجُورَهُنَّ". وبالرغم من ارتباط هذه الآية بحادثة صلح الحديبية إلاّ أنّ العلماء اتخذوها حجّة على ضرورة عدم التواصل مع "الكفّار"، ومن ثمّة نرى أنّ هؤلاء قد قعّدوا شروطا معياريّة تحدد من خلالها الوضعية الاجتماعية والقانونية سواء لمن سمّوهم "أهل الكتاب"، أو الذين اعتبروهم "أهل شرك" ولفظوهم خارج الفضاء الاجتماعي الإسلامي.
3- تميّز المسلم عن الكافر إنّ المتمعّن في آراء المفسرين والفقهاء يتفطّن إلى أنّها تنطوي على نظرة استنقاص لغير المسلمين. فالمساواة منتفية بين المؤمن والكافر. وذلك لأنّه يؤمن بالضلال ويقبع في الظلمات ومن كانت تلك طبيعته فلا غرو أن يكون بلا خُلق. فالمشرك حسب ابن تيمية مثلا "زان" ، كما أنّه ناقص عقل إذ "العقل لا يعطى للكافر ولو كان له عقل لآمن، وإنّما يعطي الكافر الذهن فصار عليه حجّة والذهن يقبل العلم جملة والعقل يميّز العلم ويقدر المقادير لحدود الأمر والنهي." واعتبر أبو حيّان أنّ سبب منع زواج المسلمات بغير المسلمين، أي "الكفار" يعود إلى ما هم عليه من الالتباس بالمحرّمات من الخمر والخنزير والانغماس في القاذورات" . ولعلّه من المفيد أن نقف عند ما أورده الصاوي بخصوص تبرير حكم الإمام مالك بكراهة الاقتران بالكافرة قال: "إنّها تتغذّى بالخمر والخنزير، وتغذّي ولدها به وزوجها يقبّلها ويضاجعها وليس له منعها من ذلك التغذّي ولو تضرر برائحته ولا من الذهاب للكنيسة. وقد تموت وهي حامل، وتدفن في مقبرة الكفّار وهي حفرة من حفر النّار". وهذا الموقف يقودنا بداهة إلى اعتبار أنّ المسلمة إذا ما نكحت ’كافرا’ فإنّها تجبر على معاشرة من لا يليق بها فلا تحصل الألفة بينهما خاصّة وأنّ "لعاب الكفّار من الرجال والنساء الكتابيين وغيرهم نجس كلّه وكذلك العرق منهم، والدمع وكلّ ما كان منهم" . أمّا المراد بالنجاسة حسب النووي فهي "نجاسة الاعتقاد والاستقذار". ويعاضده الشوكاني في ذلك فيرى أنّ النجاسة ليست "النجاسة الحسيّة، بل النجاسة الحكميّة". من الواضح أنّ تأسيس المجتمع الإسلامي على عقيدة التوحيد قد اقتضى محاربة كلّ أشكال الكفر حتى لا يبقى في الجزيرة إلاّ دين واحد. وقد جرى بادئ ذي بدء إقصاء عبدة الأوثان إقصاء تاما عن جماعة المؤمنين، إن كان ذلك على صعيد العقيدة، أو على صعيد العلاقات الاجتماعية. وما إن تركزت "الدولة الإسلامية" وانطلقت حروب الفتح حتى أدرك المسلمون مدى تفوّقهم على الكفار خاصة بعد أن دكّوا عرش فارس، وانتصروا على الروم فتملكهم الشعور بالسيادة والعظمة. وبدا مركب الاستعلاء جليّا في مؤلفات عدد كبير من القدامى الذين بذلوا كلّ ما في وسعهم حتى يحافظوا على امتياز المسلم على سواه. وهكذا شحن مصطلح "الكافر" بدلالات سلبية وآل الأمر بأهل الكتاب إلى احتلال مكانتهم بين فئة "الكفار" على الصعيد الديني، وإن استمر قبولهم في حضن الجماعة المسلمة بعد تأدية الجزية وهم "صاغرون". وقد حرص العلماء على المحافظة على الحدود الفاصلة بين المسلمين وغيرهم فتشددوا في زواج المسلم بغير المسلمة، واشترطوا جملة من الشروط منها: أن تكون الكتابية حرّة عفيفة مقيمة في دار الإسلام. أمّا غير المسلم فإنّه يمنع من نكاح المسلمة، حتى وإن كانت زانية لأنّها تفضله بما منحها الإسلام من حقوق. والجدير بالذكر في هذا الصدد أنّ الشعور بالاصطفاء والتمايز لم يكن شعورا خاصا المسلمين فحسب، بل إنّه ظاهرة مشتركة بين الأديان التوحيدية الثلاثة. والواقع أنّ إحساس المسلم بتفوقه سيتجاوز العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين ليصل إلى أصحاب المذاهب داخل المعتقد الواحد، ونعني به الإسلام وكان ذلك على إثر اصطراع المذاهب والفرق الدينية. جاء في الفرق بين الفرق "أنّ الرافضي، أو الزيدي، أو الجهمي أو الخارجي، أو المعتزلي" لا تحلّ ذبيحته ولا نكاحه لامرأة سنيّة". أمّا ابن تيمية فقد نبّه في فتاويه إلى ضرورة التحرّي في مسألة إنكاح المسلمة السنيّة قال: "الرافضة المحضة هم أهل أهواء وبدع وضلال ولا ينبغي للمسلم أن يتزوج موليته من رافضيّ وإن تزوّج هو رافضية صحّ النكاح، إذا كان يرجو أن تتوب وإلاّ فترك نكاحها أفضل لئلا تفسد عليه ولده والله أعلم. وفي مقابل ذلك أورد الشهرستاني أنّ الأزارقة والأخنسية والصفرية منعوا الخارجية من التزوّج بمن لا ينتمي إلى مذهبها وسمحوا لها بأن تنكح غير المسلم.
4- حماية المرأة اعتبر القرطبي أنّ سبب التفريق بين المهاجرات والكفار بعد صلح الحديبية هو "أنهنّ ذوات فروج يحرمن عليهم ….(و) أنهنّ أرقّ قلوبا وأسرع تقلّبا منهم". وعاضده عدد من العلماء فرأوا أنّ المرأة تنساق بفطرتها للرجل فترغم على التخلّق بأخلاقه التي يأباها الإسلام فتحدث الفتنة وترتدّ. وفي مقابل ذلك أثبت هؤلاء أنّ الرجل قادر على حماية نفسه من غواية "الكافرة" وتأثيرها فيه، لأنّ عقد النكاح يجعله صاحب سلطان عليها، ويلزمه بتهذيبها وإصلاح دينها بدعوتها إلى الإسلام. ويمكن إذن وفق هذا المنظور اعتبار أنّ المنزلة التي كانت عليها المرأة آنذاك أوجبت ضرب وصاية الرجل عليها باعتبار أنّها كانت غير مؤهلة لأن تستقل بذاتها وأن تكون فاعلة في علاقتها الزوجية. ولا يخفى أنّ وراء هذا الاحتجاج بحماية المرأة خوف هذا المجتمع "الرجالي" من أن تزهد المسلمات في المسلمين وتقتدي الواحدة بالأخرى فتدبّ الفتنة في المجتمع ويتم القضاء على وحدته، لذلك كان على العلماء أن يمنعوا النساء اللواتي "خلقن من ضلع أعوج" من الانقياد وراء عواطفهنّ فيعجبنّ بـ"الكفّار" ويتركن دينهن ويتحوّلن إلى متاع للآخر يستمتع به ويمتلك زمام أمره. وبيّن أن وراء غيرة القدامى على هذا الكائن الضعيف الذي ينبني وجوده على ضعف البنية ورقّة الشعور ونقصان العقل، ورقة الدين حرصا على إبقاء الوصاية واستمرارها إذ النكاح ليس إلاّ إجراء لنقل الوصاية الممارسة على المرأة من الأب، أو الأخ إلى الزوج. والمطّلع على كتب التراث يلحظ مدى اهتمام القدامى بهذه المسألة، إذ ذهب أكثرهم إلى الإشارة إلى أنّ آية "لا تنكحوا المشركين" هي دليل على أنّ "لا نكاح إلا بولي". وذلك لأنّ الوليّ هو المسؤول عن اختيار الزوج الكفء و"الكفاءة المطلوبة في النكاح الدين أي المماثلة، أو المقارنة في التديّن بشرائع الإسلام لا في مجرد أصل الإسلام لقول المدوّنة: ولها وللوليّ تركها وليس لها ولوليها ترك المكافأة في الأصل والرضا بكافر". ونظرا إلى انتفاء المساواة بين المسلم والكافر فإنّ الكفاءة منعدمة في غير المسلم، والمرأة المسلمة التي تقبل على مثل هذا النكاح تلحق العار بأسرتها وعشيرتها إذ أنّ "للوليّ مع المرأة في نفسها حقّا" . والواقع أنّ توسّع الفقهاء في مسألة الكفاءة وشروطها يحيل إلى الدور الذي لعبته العصبية في المجتمع الإسلامي.
5- حماية الإسلام لمّا كان النكاح عقد تمليك يبيح للرجل الاستمتاع بالمرأة فإنّ المسلمة التي تمكّن "الكافر" أو "الخسيس"، أو"النجس" من أن تكون هي محلّ شهوته وحرثه، إنّما توفّر له فرصة الاستهزاء بالمسلمين، والانتقام من الإسلام. ذلك أنّ جسد المرأة حامل لعلامة، ومجسّد لقيم عديدة استبطنها منذ النشأة. وهي حين تسمح للكافر أن يتلذّذ بها وتذعن له وتطيعه فإنّها تمكّنه من الهيمنة عليها باعتبار أنّه "يقوى عليها والكتابيّة تحت المسلم لا تقوى عليه، بل هو الأقوى". وهي بذلك تجوّز للكافر أن يسترقّها في حين أنّ "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه". ومن ثمة وجبت مراعاة "عرض الإسلام". والامتناع عن هذا النوع من النكاح "لما في ذلك من الفضاضة على الإسلام" ، ولما في ذلك من الخطر إذ يمكن "للكافر" أن يتجسّس على المسلمين بواسطة هذا الزواج. وإذا كان الغرض الأساسي من النكاح هو التناسل الذي به تكثر الأمّة المحمّديّة ويعزّ جانبها، فإنّ اقتران المسلمة "بالكافر" جنسيّا يضرّ بمصالح الإسلام لأنّها بذلك تساهم في تكثير عدد "الكفّار". إنّ سيطرة الطابع الدفاعي على أغلب تبريرات القدامى يقودنا إلى تبيّن الصلة بين الزواج والدين، إذ اعتبر الزواج الداخلي أفضل وسيلة للحفاظ على الدين، وحماية المجتمع من تسرب عناصر أجنبية، وهويات ثقافية متعددة قادرة على الهيمنة على المسلمين، أمّا الزواج الخارجي فإنّه بدا خطرا يهدّد وحدة المجتمع وعقيدة التوحيد. ومن ثمّة نرى أن تشدّد العلماء في مسألة زواج غير المسلم بالمسلمة ما كان إلاّ وسيلة من وسائل حماية الذات. ولكن ما الخلفيات الكامنة وراء هذه المواقف؟
زواج المسلمة بغير المسلم بين الفقه الإسلامي والقانون
2- آمال قرامي تكمن الخلفيات الكامنة وراء هذه المواقف فيما يلي:
إنّ "القرآن والسنّة" نصّان مؤسّسان لرؤية جديدة للكون والمجتمع والسلوك وذلك بالفعل في الواقع، أي عبر تركيز مفاهيم وتصورات ومبادئ خاصة مقابلة لتلك التي كانت سائدة ضمنه وبذلك تغدو الجاهلية "ما قد سلف". فإن كان الجاهلي قد احتك باليهود والنصارى وغيرهم وصاهرهم مؤثرا الزواج بالأباعد أحيانا على الزواج بالأقارب، فإنّ الوضع الجديد الحريص على تميّز المنظومة المحدثة سيدفع المسلم إلى التساؤل عن "شرعية" التواصل مع "الآخر" وحدود العلاقة التي ستربطه به. لقد تعددت النّصوص التي تشعر المسلمين بأنّهم يكوّنون مجموعة اجتماعيّة مصطفاة مقابلة لمجموعة الجاهليين، وبذلك تشكّلت الذات المثلى لجماعة "المؤمنين"، وتحددت علاقتهم بسواهم. وكان النزاع بين المجموعتين المختلفتين مدعاة إلى تقوية الشعور بالانتماء إلى كل واحدة منهما، فتغدو مجموعة انتماء للفرد وإذا قوي هذا الشعور، فإنّ الفرد يستبطن قوانين المجموعة استبطانا مطلقا فتغدو مثاله ومرجعه، ممّا يحمله على تقويم نفسه وتقويم الآخرين وفقها. فلا غرو إذن أن تتضافر النصوص التي تجسد صورة المسلم المنشود، ذاك المثال الأخلاقي لذات جماعيّة بأسرها، ذاك الذي ينظم سلوكه ليس فقط انطلاقا من موقع وامتيازات ووظائف اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة، وإنّما أيضا انطلاقا من "دور علائقي" مع زوجته. فهو المكلّف بأداء رسالة تهذيبية ودينية باعتباره يلعب دور الفاعل الأخلاقي في العلاقة الزوجية فمن واجب الزوج أن يعلّم زوجته أحكام الصلاة …..[و] أن يلقّنها اعتقاد أهل السنّة ويزيل عن قلبها كلّ بدعة إن استمعت إليها ويخوّفها في الله إن تساهلت في أمر الدين….. وإذا كانت تاركة للصلاة، فله حملها على الصلاة قهرا". والمطّلع على المدوّنة الفقهية بالخصوص تستوقفه عبارات كثيرا ما تتردد في خطاب "العلماء". فهم حين يتحدثون عن المرأة يقولون "وهبتها لك" و"أبضعتها لك" و"ملّكتها لك" و"أنكحتك إيّاها"، وهو خطاب يشي بالمعنى الذي كان سائدا للنكاح. إنّ النكاح "عقد لحلّ تمتع بأنثى غير محرم وغير مجوسيّة ولا أمة كتابية بصيغة لقادر محتاج أو راج نسلا". وهو ليس ….. فرضا على النساء"، ومعنى ذلك أنّ الزواج حاجة للرجل دون المرأة وأن التمتّع بالعلاقات الجنسيّة يكون لصالح الذكر دون الأنثى. ونلحظ أن هذا العقد يثبت للزوج على الزوجة "سبيلا في إمساكها في بيته وتأديبها ومنعها من الخروج. وعليها طاعته فيما يقتضيه عقد النكاح" وذلك لأنّ "الزوج سيّد في كتاب الله [لـ] قوله تعالى "وَأَلْفَيَا سَيِّدِهَا لَدَى البَابِ." كما أنّه في عقد النكاح قوّام من القيام بالشيء والاستبداد بالنظر فيه … وهو أن يقوم بتدبيرها وتأديبها وإمساكها في بيتها ومنعها من البروز وأنّ عليها طاعته وقبول أمره. وتعليل ذلك بالفضيلة والنفقة والعقل والقوّة في أمر الجهاد والميراث والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". وممّا لا شكّ فيه أنّ مواقف "العلماء" من زواج المسلمة بغير المسلم لا يمكن فهمها إلاّ في ضوء ما كانت عليه منزلة كلّ من الذكر والأنثى في المجتمعات الإسلامية القديمة. لقد كان الرجل ربّ الأسرة وراعي أهله، وهو المسؤول عن كلّ أمر وهو "العاقد" في النكاح وهو السيّد المهيمن والمطاع، وهو المكلّف بحماية الإسلام إذ الدين "بالرجال أليق"، فلا ضير أن يجوّز علماء أهل السنة اقترانه بالكتابيّة لأنّها في هذه الحالة، ستكون "تحته" وهو في العلاقة الزوجية "الأقوى" بحكم انتمائه إلى حضارة غازية وأمّة مختارة اصطفاها الله لتكون شاهدة على النّاس أجمعين، وبحكم انتمائه إلى الدين "الحق" الذي يعزّ به كلّ من انتسب إليه لأنّه متفوّق على سائر الأديان التي كان ينظر إليها نظرة استنقاص حتى وإن سمح لمعتنقيها بممارسة شعائرهم في ظلّ دار الإسلام. وكما هو معلوم كانت المنافسة على تجسيد "الدين الصحيح" وممارسته والدفاع عنه ظاهرة مشتركة بين الأديان التوحيدية الثلاثة. وإذا نظرنا إلى منزلة المرأة تبيّن لنا أنّ النصّ التأسيسي كان حريصا على تغيير نظرة احتقار الأنثى واستنقاصها. وهي النظرة التي كانت سائدة في الغالب، زمن الجاهلية. ويبدو أنّ هذا التغيير كان في صالح المرأة في بعض الحالات، إذ لم يعد للرجل حق التزوج بما لا يحصر من النساء، ولم يعد له القسم على اعتزال زوجته قدر ما يشاء. بيد أن عسر التخلص من الموروث القديم أدّى إلى تواصل النزاع بين المنظومة القديمة والمنظومة الجديدة، وهو أمر بدا جليّا في كتابات القدامى، إذ كثيرا ما سعى هؤلاء إلى ترسيخ فكرة المفاضلة بين الجنسين معتمدين في ذلك على روايات وأحاديث منتقاة تخدم الغرض وتضفي الشرعيّة على هيمنة الرجل على المرأة مثل قول الرسول في خطبة الوداع:"استوصوا بالنساء خيرا فإنّهن عندكم عوان"، وقوله "لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها. ولو أنّ رجلا أمر امرأة أن تنتقل من جبل أحمر إلى جبل أسود، ومن جبل أسود إلى جبل أحمر لكان قولها أن تفعل" وقوله أيضا "إنّي لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لغير الله، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها. والذي نفس محمّد بيده لا تؤدي المرأة حقّ ربّها حتى تؤدي حق زوجها ولو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه" وقوله أيضا: "أيّما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنّة"، والواقع أنّنا حين نتدبّر برويّة هذه الأحاديث نرى أنّها تعبّر عن حاجة القدامى إلى عدم تقويض الأنماط التقليديّة، وإلى إضفاء الشرعية على أحكامهم. كما أنّ اعتماد العلماء على هذه النصوص والتذكير بها في كلّ مناسبة ينمّ عن حرص المجتمع وهو مجتمع "رجالي" على تحقيق الضبط الاجتماعي والمحافظة على وضع يكون فيه الرجل في أعلى الهرم وتكون فيه المرأة في الأسفل. إنّ عدم المساواة بين الرجل والمرأة أمر رسّخته ثقافة معيّنة في البنى الذهنية للرجال والنساء على حدّ السواء، وهو واقع صنعه التاريخ والأنظمة الاجتماعية المتتالية التي كرّست دونيّة المرأة في مجتمع يلعب فيه الرجال الدور الأساسي في الإنتاج والسلطة. و ذلك الوضع كان يعدّ طبيعيّا أي، من طبيعة الأمور، ومن المعقول إذ ثبت في المتخيّل الإسلامي أنّ المرأة تابعة للرجل بالفطرة، وهي مخلوقة لأجله وهي بمنزلة الحرث في تكوّن النوع ونمائه فعليها يعتمد النوع في بقائه، كما أنّها وعاء مكلّف بإنتاج نسل تتباهى به الأمّة الإسلامية أمام سائر الأمم التي لم يخّصها الله "بأفضل دين". وتشير كتب التراث إلى مدى استبطان المرأة للقيم والمعايير والأوامر والنواهي التي حددها العلماء ممّا جعلها تدلي بنصائحها إلى ابنتها حتى تكون مواتية لزوجها، تبوعا له ومنه سموعا ومعتنية بجسدها لأنّها مفرش لزوجها، يستمتع بها متى شاء. وهكذا ترسّخ لدى المرأة اعتقاد بأنّها كائن ضعيف غير مؤهل لتحمّل عبء المسؤوليات وأوّلها مسؤولية اختيار البعل، وتولي أمر النكاح بنفسها، وذلك لأنّها طرف "معقود عليها" مطالب بطاعة الله ورسوله وأولي الأمر والزوج. ولا يخفى أنّ تقديم الطاعة كان أمرا معمولا به ومقبولا دون احتجاج على جميع المستويات: طاعة الابن للأب أو البنت للأخ، والأب، أو الصغير للكبير، أو المؤمن للعالم، أو المريد للشيخ، والجميع يخضع للسلطان، أو للخليفة، أو للأمير. وإذا كان هذا واقع الحال في شأن المسلم والمسلمة فما هو الحال في شأن الآخر المغاير؟
لمّا كان المسلم ينطلق من "موقع"، من نظام للعوائد والقيم، فإنّ هذا "الموقع" سيعدّ مقياسه الثابت للحكم على الآخر فلا غرو أن يعتبر "المشرك" نجس الذات، لا يدين بدين الحق وعدو الله، لذا كان على المسلمين محاربته وأمثاله ومن ثمّة لا نستغرب أن ينهى النص التأسيسي عن إقامة علاقات تصاهر مع المشركين، خاصّة إذا ما فهمنا أنّ هذه الآيات لم تكن خبرا لغويّا معزولا عن خصائص إطاره التاريخي، ونعني بذلك تنازع المسلمين وأعداءهم ذاك النزاع الذي خلّف آثارا عميقة ظلّت حاضرة في الذاكرة الجماعيّة. أمّا أهل الكتاب فإنّ أصل دينهم كان الحنيفيّة "وظلوا" بعد ذلك فلا مانع من التواصل معهم حسب الحدود التي ضبطها "العلماء". ولا بأس من عقد علاقات تصاهر معهم قد تكون سببا في إزاحة ظلمات الضلالة والكفر عن قلوبهم وهدايتهم إلى نور الهدى والإيمان وبذلك تكون المصاهرة وسيلة من وسائل نشر الإسلام. وإذا تبيّن لنا أنّ التزام مجموعة بشرية بأفكار وآراء ومواقف جديدة مشروط في جانب كبير منه بما تحققه هذه الأفكار والمواقف من مصالح للمجموعة أمكننا فهم الأسباب التي جعلت زواج المسلم بالكتابية جائزا، أو مقبولا اجتماعيا. فهو لا يضر بمصالح الرجل باعتبار أنّ تأويل آية "ولا تنكحوا المشركات" تلاءم مع المقتضيات الاجتماعية في ذلك العصر وحاجيات الذكور، خاصة بعد حروب الفتح وما ترتب عنها من وفرة السبايا والأسيرات من كلّ الأجناس واكتشاف العرب لمقاييس جماليّة جديدة. ويكفي أن نتذكّر ما أورده الجاحظ بخصوص اشتهار أهل كلّ مصر بميلهم إلى أجناس من النساء بحكم الجوار، وبحكم ما كانوا يأسرون ويسترقّون لندرك ما كان للنساء غير العربيات من حظوة لدى المسلمين ولنفهم علّة من بين علل استشراء ظاهرة التسرّي بالجواري المتعددات. على هذا النحو يتأسس النكاح المشروع اجتماعيّا ويدخل في عداد المكافأ عنه لأنّه مبارك باعتباره يتجاوب مع خطاب "الأمر الإلهي"، ويراعي ما قام به "العلماء" من ضبط للحياة الجنسية. فقد روعي في الواقع، وضعه الأخلاقي وفضاؤه الطقسي، والزمان الذي ينبغي أن يقع فيه وارتبط بمقوله الثواب وعدّ شكلا من أشكال محاربة غواية الشيطان. أما النكاح اللاّمشروع فإنّه عدّ اختراقا لأخلاقية المجتمع عامّة، واستبعد من دائرة التعزيز لأنّه مخلّ بالنظام الاجتماعي، مضرّ بوحدة المجتمع، وتلاؤم عناصره ومكوناته مؤد إلى خلخلة المعايير المقدّسة. وعلى ضوء ما سبق يمكن القول إنّ أسباب منع زواج المسلمة بغير المسلم تكمن في نمط القيم الذي كان مسيطرا على المجتمع الإسلامي. إذ كان التمييز جاريا به العمل بين الأنثى والذكر، وبين الخاصّة والعامة، وبين العربي والأعجمي، وبين الحرّ والعبد، وبين المسلم والذميّ ذاك الذي ألزم بأداء الجزية وفرضت عليه جملة من القيود في فترات تاريخية معينة. إنّ اعتزاز المسلمين بدينهم، واعتقادهم أنّهم يملكون الحقيقة المطلقة جعلاهم لا يحاولون معرفة معتقدات الآخر كافرا كان، أو مشركا معرفة تخوّل لهم التزحزح عن موقف الرفض وتغيير نظرة الاحتقار والابتعاد عن ممارسة النبذ والإقصاء. فكان الأنموذج المثالي في نظرهم: الذكر المسلم البالغ العاقل الحرّ وكلما ابتعد الإنسان عن هذا النموذج ضاقت دائرة حقوقه وحرياته. والجدير بالذكر أنّ اختلاف الأديان في نظر القدامى، لم يكن يعني تكافؤها بل هناك دين واحد من بينها هو الدين الحق وهو الإسلام ومن ثمة فإنّ المنتسب إلى غير هذا الدين لم يكن مقبولا في علاقات التصاهر على وجه الخصوص، إذ لم يكن النكاح مسألة شخصية تخصّ طرفين إنّما كان إجراء يخصّ أمّة بأسرها. لقد تطلّبت إقامة المجتمع الإسلامي سياسة خاصة إذ كان على الخلفاء أن يسوسوا قوما لم يتعوّدوا أن يساسوا على مثل ذلك النحو وكان عليهم أن يحضّروا أناسا ألفوا حياة البداوة حتّى النخاع. وكان على العلماء أن يخاطبوا جماعة كانت قريبة العهد بالإسلام وجاهلة بأمور الدين، ومستبطنة لقيم وأعراف وتقاليد وعادات يصعب التخلي عنها كليّا. كما كان على الفقهاء أن يشرّعوا أحكاما تتلاءم مع مقتضيات الدين والعصر وتراعي المزاج العربي وتتماشى مع منزلة المرأة آنذاك، ووفق هذا الطرح نفهم كيف أنّ "السياج الدوغمائي" المغلق لم يكن نتاج تعاليم الدين بقدر ما كان نتاج موروث سابق على الإسلام، إذ لا يخفى دور البنى الأوّليّة للقرابة في سريان الأرزاق والسلطات التي يتمتع بها الناس في المجتمع. فعملية تبادل النساء تخضع لجملة من المقاصد منها تحقيق الغنى، والهيمنة، وتوفير الحماية الذاتية. وهذه الأهداف تتجاوز في حقيقة الأمر مصالح الفرد الذي تتم مبادلته، ونعني بذلك المرأة في عقد النكاح. وإذا كان أمن الفرد مرتبطا أشدّ الارتباط بقوة العشيرة التي تضمن حمايته فهِمْنَا سببا من بين الأسباب التي دعت العلماء إلى منع زواج المسلمة بغير المسلم إذ أنّها في هذه الحالة لا تنتقل إلى عشيرة قويّة يتسابق الجميع لعقد تحالف معها بواسطة الزواج، وإنّما تنضم إلى "أهل الذمّة" إلى من هم دون قومها عزّا ومنزلة وشرفا. ويلوح القول إنّ تمتّع "الكافر" بجسد المسلمة يحدث خلخلة في نسق القيم ولعلّ أهمّها "قانون العرض" الذي قنن جنسانية النساء بشكل صارم يخدم مصلحة الجماعة ويحفظ النظام داخلها. ولا شك أنّ هاجس العلماء الأكبر كان الخوف على هذا المجتمع من "الفرقة والاختلاف" وضياع رأسماله الرمزيّ، ومن ثمة لم يكن بوسع هؤلاء أن يعالجوا مسألة زواج المسلمة بغير المسلم بمنأى عن خصوصيات المجتمع الإسلامي ومصالحه.
لقد صرفنا اهتمامنا في هذا القسم من العمل إلى تتبع الخلفيات الضمنية التي تستند إليها مواقف القدامى، وإلى ترصّد أبعاد تلك الآراء المقدّمة باسم "الإسلام". وكان ممّا لفت نظرنا أثناء استقراء كتب التراث التي تسنّى لنا الاطلاع عليها الجهد المبذول في خطاب "العلماء" لحجب حالات اتصال المسلمات بغير المسلمين سواء كان ذلك عن طريق العقد، أو الوطء. فالمرأة حاضرة في النصوص التشريعيّة بصفتها طرفا معقودا عليها ومتكلّما عنها لكنّها تبدو ، في الغالب، غائبة في النصوص التي اهتمت بتصوير الواقع المعيش. فلم تقع بين أيدينا ووايات، أو شهادات تبيّن إلى أي مدى كان التزام المرأة بما قرره العلماء.؟ وهنا حقّ لنا التساؤل عن وضع الأسيرات اللاّتي انتقلن إلى مجتمعات غير إسلاميّة واجبرن على التواصل مع غير المسلم. كما أنّنا نتساءل عن وضع المسلمات اللائي كنّ في أمصار تتعايش فيها ملل متعددة ويكون فيها المسلمون أقليّة، ثمّ ما هو وضع المورسكيات اللاتي اكرهن على التزوّج بالنصارى؟ . إنّ غاية ما يجده الباحث في هذا الصدد بعض الإشارات العابرة في عدد قليل من الرحلة التي تخبرنا بأنّ اقتران المسلمة بغير المسلم لم يكن أمرا مستحيل الحدوث، بل كان إجراء معمولا به في فترات تاريخية وفي أمصار خاصة . وإذا كانت هذه مواقف القدامى من مسألة زواج المسلمة بغير المسلم وهي مواقف متنزلة ضمن خصوصيات المجتمعات الإسلامية آنذاك، وهي مجتمعات آلت إلى وضع تمّ فيه إغلاق كلّ الأسئلة التي كانت قد طرحت في المرحلة التأسيسية للإسلام برتاج صلب، خاصة بعد انتصار "الأرثوتكسيّة الرسميّة" نتيجة تفاقم سلطة الفقهاء ورجال الدين فما هي مواقف المحدثين من هذه القضية؟
للرفع فقط
انتشرت ظاهرة زواج المسلمة من غير المسلم و بدأت الآن تتسع في السنوات الأخيرة ربما بفعل عوامل اقتصادية والعولمة و عوامل الانفتاح الحالية، لكن للأسف هناك تداعيات سيكولوجية ونفسية على الأطفال في حالة تفجر هذا الزواج.
جزاك الله خيرا أختي الغالية أم سارة على الموضوع الجد مهم.